إنّ إدارة العقل أو ما يعرف بـ Mental management من أهم الِشعْب التي يهتم بها متخصصو علم النفس والمعرفة، وقد تسابق الكثير منهم لطرح العديد من الدراسات والأبحاث بخصوصها، محاولين الإلمام بمختلف جوانبها وعناصرها التي تعتبر فعالةً في تحقيق أقصى فهم لملكة العقل، وأقوى معرفة بتوظيفه.
بالنسبة لجوي سونوا Guy Sonnoie، وهو متخصص فرنسي في المرافقة البيداغوجية للطلاب المراهقين ممن يعانون من مشاكل في التعلم (وهو ذو خبرة تتجاوز 40 سنةً)، فالفهم هو العملية العقلية الأكثر تعقيدًا، وهو المفسر والشرط الأساسي لنجاح جميع عمليات التعلّم الأخرى، إذ يعتبر القلب النابض لكل نشاطٍ فكري. وبالتالي، فتقييم التعلّم من تقييم عملية الفهم نفسها.
في هذا السياق، يقدم سونوا في كتابه “Accompagner le travail des adolescents : Avec la pédagogie des gestes mentaux / مرافقة عمل المراهقين: ببيداغوجية إدارات العقل” ثلاث مراحل أساسية تضمن للمُتعلّم تحقيق فهم جيد، وتتمثل في التالي:
1- الترجمة الشخصية للمعلومات
ما يقصد بالترجمة هنا هو تحويل المعلومات والدروس المتلقية إلى “اللغة العقلية” الخاصة بكل واحدٍ منا. وهنا، ودون الخوض في التفاصيل التي يطرحها علم النفس وعلم اللسانيات والمعرفة، يجب محاولة دمج ثلاثة عناصر لتحقيق أفضل إطار مرجعي للمعلومة المكتسبة، وهي:
- المساحة: وتعتبر المساحة التي يحتلها الدرس في العقل، والذي قد “يتخيلها” هذا الأخير كخلفية أو ورقة بيضاء كبيرة، والتي يلقي عليها كل ما اكتسبه بشكل منظم ومرتب: معلومة توضع فوقًا، أخرى في الوسط … يعتمد هذا البعد على إعادة إسقاط وتصوير للدرس أو المعلومات بشكل شخصي حسب ترتيب العقل وقدراته.
- الوقت: والمقصود به الترتيب الزمني للدرس والتسلسل الذي يعتبر العقل منطقيًّا لتلقي المعلومات، حيث يتم تعلّم معلومة بعد الأخرى حسب ما يراه العقل مناسبًّا وسهلًا للاستيعاب. هنا يجب الإشارة إلى أنّ الترتيب المناسب للعقل قد يكون مغايرًا لذاك الذي وضعت به المعلومات في الدرس أو ما أملاه أستاذ المادة، فمنطق العقل وتنظيمه يختلف من شخصٍ لآخر.
- الحركة: هناك بعض الأشخاص ممن لا يستطيعون تعلّم أو حفظ درس أو معلومة دونما القيام بحركة، بل قد يتجاوز الأمر إلى كون عملية التعلّم بالنسبة لهم ماهي إلّا عملية قيام بحركة، فقد يتخيلون أنفسهم يكتبون المعلومة أو يحفظون مشيًّا … هؤلاء بحاجة إلى الجسد أيضًا بالإضافة للعقل للقيام بعمليتهم.
تعتبر هذه الترجمة انتقالًا من الخارج (خريطة، درس، ملخص، مقال …) إلى الداخل (ترجمات وتأويلات داخلية في الرأس) من خلال تغيير في طبيعة ما يجب فهمه وتعلّمه من معلومات لتتوافق مع القدرات الذهنية والعقلية للمُتعلم، فكلما كانت الترجمة كبيرة والتحويل أنسب، كلما كانت عملية الفهم أكثر فاعليةً وتأثيرًا.
2- التأكد من صحة الترجمة
يتم التأكد من الترجمة الخاصة، والاستيعاب المناسب للمعلومة من خلال:
- تحديد الفروق وأوجه التشابه بين المعلومة الأساسية والترجمة الشخصية لها؛ أي بين ما تمثله المعلومة بالفعل وما استطاع الشخص فهمه.
- القيام بتصحيحات وإضافة مكتسبات للحصول على أكبر قدر من “التطابق”؛ أي استيعاب أكبر قدر من المعلومات.
بالقيام بذلك، يتم الحصول في الأخير على ترجمة شخصية للمعلومة بصورة شبه متطابقة. الشيء الذي يضمن لك من جهة استيعابها وتحقيق فعالية العملية التعلمية، حيث أنّ استخدام أساليب وقدرات خاصة يمكّنك من اختصار الجهد في تلقي المعلومة والحفاظ عليها في الذاكرة لأطول فترة ممكنة، ومن جهة أخرى القدرة على تصفية المعلومات، وتحديد المهمة منها والرئيسية من الفرعية والثانوية.
3- الاستجواب المنهجي لاستخراج المعنى
بعد القيام باستيعاب المعلومة وفهمها بشكلٍ وثيق، يأتي الآن دور ترسيخ المعاني وتعميق الفهم بدل أن يكون سطحيًّا وبسيطًا مقتصرًا فقط على ما تم استيعابه. تأتي هذه المرحلة إذًا لتوسيع المفاهيم وتغطية الدروس بشكلٍ شاملٍ، وذلك عبر طرح خمسة أسئلة محددة، هي:
- ماذا؟ يمكّنك هذا السؤال من تحديد الأفكار انطلاقًا من كلمات قليلة، كتحديد الدرس، اسمه (أو صيغته الدقيقة)، أو تعريفه (مجموعة من سمات المفهوم مثلًا). قد تكون إجابة السؤال أيضًا على شكل كلمة محددة أو تقنية، نظرية رياضيات، قاعدة من قواعد اللغة، صيغة فيزيائية …
- مع ماذا؟ يعمل هذا السؤال على تحديد الإطار والسياق المنطقي للدرس، فعملية التعلّم لا تتم بتلقي معلومات بشكل متفرق، بل بتحديد رابط منطقي لها يسهل استيعابها كيفما كان نوعه (التشابه، الاختلاف، التسلسل الزمني، السبب والنتيجة، الإدراج أو الاستبعاد …).
- ما الفائدة؟ أجوبة هذا السؤال تتمثل اختصارًا في تحديد الفائدة والاستخدام المستقبلي للفكرة أو المعلومة المتلقية، وإعادة الصياغة التي قد تطالها بعد ذلك في حال مراجعتها وتغييرها. إنّ هذا السؤال سيقرب المعلومة ويجعل منها ملموسةً من طرف المُتعلم بدل كونها تجريديةً.
- لماذا؟ بخلاف السؤال السابق والمبني على الافتراضات واستخدامات المستقبل، فهذا السؤال يحاول الغوص في الماضي والإجابة على المصدر الأساسي للمعلومة؛ لماذا تم التوصل إلى هذه المبرهنة؟ ما الحاجة التي أدت لاختراع هذه الطريقة … وغيرها من الأمثلة. بالعودة لمرحلة الترجمة، فهناك بعض الأشخاص ممن لا يستطيعون بسط مساحتهم الخاصة، وتسلسلهم الزمني الخاص إن لم تكن الانطلاقة هي “السبب التاريخي” للمعلومة.
- كيف؟ يقدم هذا السؤال مجموع الوسائل والطرق التي يمكن استخدامها من أجل فهم وترسيخ المعلومة نفسها، حيث يتم تحديد من خلاله أهم التمارين أو الأسئلة التطبيقية التي ترتبط بالمعلومة أو الدرس، والتي يمكن للطالب القيام بها والتدرب على حلها.
بعد الإلمام بهذه القواعد الثلاث، يمكنك أن تضمن تحقيق فهم جيد وفعال للدروس بمختلف مجالاتها وأنواعها، الشيء الذي سيساعدك في حفظها وتذكرها بشكلٍ سهلٍ يختصر جهدك ووقتك بشكلٍ أساسي.