أواخر أيامه
ثم أُصِيبَ إبراهيم باشا بانحراف في صحته، فسار إلى أوروبا لقضاء فصل الصيف سنة ١٨٤٥ فأصاب ترحابًا عظيمًا في سائر الممالك الأوروبية ولا سيما في فرنسا وإنكلترا، وعاد إلى مصر في أواخر صيف عام ١٨٤٦م وكان والده قد توجه قبل وصوله بيسير إلى الأستانة بدعوة رسمية ليقدم عبوديته لجلالة السلطان فوصلها في ١٩ يوليو (تموز) عام ١٨٤٦م، ونزل في سراي رضا باشا، ثم تَشَرَّفَ بالمثول بين يدي جلالة السلطان فرحب به. ولما أراد تقبيل الأعتاب الشاهانية أمسكه جلالته وأجلسه بجانبه ومكثا ساعة يتحادثان. ثم انصرف شاكرًا وزار عدوَّه القديم خسرو باشا وتصافَيَا. وفي ١٧ أغسطس من تلك السنة برح الأستانة قاصدًا قواله مسقط رأسه فأقام فيها عدة أبنية لتعليم الفقراء وإعانة الضعفاء والمساكين، ثم برحها إلى الإسكندرية فقوبل بالأنوار وسار منها إلى القاهرة، فتقاطر إليه المهنئون من الأصدقاء أفواجًا، فكان يستقبلهم وعلى صدره الطغراء الشاهانية تتلألأ كالشمس.
وفي منتصف عام ١٨٤٨ توعَّك مزاج محمد علي باشا، وازدادت فيه ظواهر الخَرَف فلم يعد ثَمَّ بُدٌّ من تولية إبراهيم باشا، فتوجه هذا إلى إلى الأستانة في أغسطس من تلك السنة؛ لأجل تثبيته على ولاية مصر خلفًا لأبيه، فثبته السلطان بنفسه فعاد لمعاطاة الأحكام. ثم راجعه العياء واشتد عليه بغتة، ففارق هذا العالم في ١٠ نوفمبر عام ١٨٤٨م، وبعد وفاته بإحدى عشرة ساعة دُفِنَ في مدفن العائلة الخديوية بجوار الإمام الشافعي بالقاهرة.
وكان عباس باشا غائبًا في مكة فاستُقدِم حالًا لاستلام زمام الأحكام، فوصل القاهرة في ٢٤ ديسبمر بعد أن قضى فروض الحج، ولم يكن ثَمَّ اعتراض على توليته فجاء الفرمان الشاهاني من الأستانة مؤذِنًا بذلك فتولى الأمور.
كل ذلك ومحمد علي باشا في الإسكندرية، وقد أخذ منه المرض مأخذًا عظيمًا، وما زال يهزل جسدًا وعقلًا إلى ٢ أغسطس عام ١٨٤٩م، فتوفي ولم يستغرب الناس وفاته؛ لأنه مكث في حالة النزاع مدة طويلة. وفي ٣ منه تقاطر الناس من الأعيان والقناصل إلى سراي رأس التين في الإسكندرية لحضور مشهد ذلك الرجل العظيم. فإذا هو في قاعة الاستقبال في تابوت تُغَطِّيهِ شيلان الكشمير، وعلى صدره سيفه والقرآن الكريم، وعلى رأسه طربوشه الجهادي أحمر تونسي، وحوله العلماء في الملابس الرسمية يتلون القرآن بأنغام التجويد. وكان سعيد باشا أكبر من وُجِدَ في الإسكندرية من عائلة الفقيد، فكانت توجه نحوه خطابات التعزية. ونُقِلَتْ جثة الفقيد ودُفِنَتْ في جامعه في القلعة ولا تزال هناك إلى الآن.