• منتديات شباب الرافدين .. تجمع عراقي يقدم محتوى مميز لجميع طلبة وشباب العراق .. لذا ندعوكم للانضمام الى اسرتنا والمشاركة والدعم وتبادل الافكار والرؤى والمعلومات. فأهلاَ وسهلاَ بكم.

محمد علي باشا

ابن الحته

من اهلنا
2020-08-19
3,315
مصر
جوهرة
დ7,802
الجنس
ذكر

صبوته وشبيبته


قرية اسمها قواله لا يزيد عدد سكانها على الثمانية آلاف نفس. وكان في تلك القرية رجل اسمه إبراهيم آغا
كان متولِّيًا خفارة الطرق، وُلِدَ له سبعة عشر ولدًا لم يعِش منهم إلا واحد.
وفي سنة ١٧٧٣ تُوُفِّيَ هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسِنُّه أربع سنوات واسمه محمد علي.


فأصبح الغلام يتيمًا ليس له من يعوله إلا عمًّا اسمه طوسون آغا،
وكان متسلمًا على قواله، فجاء به إلى بيته شفقة عليه. غير أن المَنِيَّة عاجلت طوسون فقُتِل
بأمر الباب العالي بعد ذلك بيسير، فأصبح الغلام يتيمًا قاصرًا وليس من ينظر إليه.

وكان لوالده صديق يعرف بجربتجي براوسطة، فشفق على الغلام وجاء به إليه وعني بتربيته مع أولاده.
غير أن ذلك لم يُنسِه حاله من اليُتم فكان يشعر بالذل وضعة النفس.
ويُروَى عنه بعد أن ارتقى ذروة المجد، واعتلى منصة الأحكام أنه كان يحدث عما قاساه في صبوته من الذل إلى أن يقول:

وُلِدَ لأبي سبعة عشر ولدًا لم يعِش منهم سواي، فكان يحبني كثيرًا ولا تغفل عينه عن حراستي كيفما توجهت.
ثم توفاه الله فأصبحت يتيمًا قاصرًا، وأبدل عزي بذُلٍّ،
وكثيرًا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها عمري،
وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعس بعد أن فقد والديه!»
فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل.
فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهِمَّة غريبة،
حتى كان يمر عليَّ أحيانًا يومان ساعيًا لا آكل ولا أنام إلا شيئًا يسيرًا.
وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرًا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره،
وكنت صغيرًا فتركني رفاقي وحدي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب كان معنا، فجعلت أجاهد في الماء وسعي،
تتقاذفني الأمواج وتستقبلني الصخور حتى تهشَّمت يداي
— وكانتا لا تزالان يانعتين — وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالمًا،
وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسمًا من مملكتي.

ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنساوي مقيم في قواله اسمه المسيو ليون،
وكان من كبار التجار محبًّا للفضيلة، وحالما رأى محمد علي للمرة الأولى أشفق عليه وأحب مساعدته؛
لما توسم فيه من الفطنة والنباهة فكان يقدم له كثيرًا من حاجياته، ويسعفه بكل ما في وسعه،
حتى ألفه محمد علي كثيرًا. وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر،
واستخدمه أفرادًا منهم في مصلحة البلاد. ويقال: إنه — رحمه الله — بعث سنة ١٨٢٠ إلى الموسيو ليون
المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنًا في ضيافته، فأجاب دعوته ولكنه مات قبل قدومه،
فأسِف عليه محمد علي كثيرًا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.


قلنا: إنه رُبِّيَ في صبوته ببيت جربتجي براوسطة وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف
والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشُدَّه انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه،
فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقَّاه إلى رتبة بلوك باشي وزوَّجه إحدى أزواج قرابته،
وكانت مطلَّقة ولها مال وعقار فترك الجهادية وتعاطى التجارة، وعلى الخصوص في صنف التبغ؛
لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده. وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة وثقة عظمى لدى عملائه.
وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛
ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.


وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة ١٨٠١ حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا.
فبعثت الحكومة العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة حسين قبطان باشا، وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم
في حملة من جهة البر كما تقدم.
figure154.png
 


صبوته وشبيبته


قرية اسمها قواله لا يزيد عدد سكانها على الثمانية آلاف نفس. وكان في تلك القرية رجل اسمه إبراهيم آغا
كان متولِّيًا خفارة الطرق، وُلِدَ له سبعة عشر ولدًا لم يعِش منهم إلا واحد.
وفي سنة ١٧٧٣ تُوُفِّيَ هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسِنُّه أربع سنوات واسمه محمد علي.


فأصبح الغلام يتيمًا ليس له من يعوله إلا عمًّا اسمه طوسون آغا،
وكان متسلمًا على قواله، فجاء به إلى بيته شفقة عليه. غير أن المَنِيَّة عاجلت طوسون فقُتِل
بأمر الباب العالي بعد ذلك بيسير، فأصبح الغلام يتيمًا قاصرًا وليس من ينظر إليه.

وكان لوالده صديق يعرف بجربتجي براوسطة، فشفق على الغلام وجاء به إليه وعني بتربيته مع أولاده.
غير أن ذلك لم يُنسِه حاله من اليُتم فكان يشعر بالذل وضعة النفس.
ويُروَى عنه بعد أن ارتقى ذروة المجد، واعتلى منصة الأحكام أنه كان يحدث عما قاساه في صبوته من الذل إلى أن يقول:

وُلِدَ لأبي سبعة عشر ولدًا لم يعِش منهم سواي، فكان يحبني كثيرًا ولا تغفل عينه عن حراستي كيفما توجهت.
ثم توفاه الله فأصبحت يتيمًا قاصرًا، وأبدل عزي بذُلٍّ،
وكثيرًا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها عمري،
وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعس بعد أن فقد والديه!»
فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل.
فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهِمَّة غريبة،
حتى كان يمر عليَّ أحيانًا يومان ساعيًا لا آكل ولا أنام إلا شيئًا يسيرًا.
وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرًا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره،
وكنت صغيرًا فتركني رفاقي وحدي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب كان معنا، فجعلت أجاهد في الماء وسعي،
تتقاذفني الأمواج وتستقبلني الصخور حتى تهشَّمت يداي
— وكانتا لا تزالان يانعتين — وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالمًا،
وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسمًا من مملكتي.

ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنساوي مقيم في قواله اسمه المسيو ليون،
وكان من كبار التجار محبًّا للفضيلة، وحالما رأى محمد علي للمرة الأولى أشفق عليه وأحب مساعدته؛
لما توسم فيه من الفطنة والنباهة فكان يقدم له كثيرًا من حاجياته، ويسعفه بكل ما في وسعه،
حتى ألفه محمد علي كثيرًا. وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر،
واستخدمه أفرادًا منهم في مصلحة البلاد. ويقال: إنه — رحمه الله — بعث سنة ١٨٢٠ إلى الموسيو ليون
المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنًا في ضيافته، فأجاب دعوته ولكنه مات قبل قدومه،
فأسِف عليه محمد علي كثيرًا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.


قلنا: إنه رُبِّيَ في صبوته ببيت جربتجي براوسطة وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف
والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشُدَّه انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه،
فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقَّاه إلى رتبة بلوك باشي وزوَّجه إحدى أزواج قرابته،
وكانت مطلَّقة ولها مال وعقار فترك الجهادية وتعاطى التجارة، وعلى الخصوص في صنف التبغ؛
لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده. وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة وثقة عظمى لدى عملائه.
وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛
ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.


وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة ١٨٠١ حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا.
فبعثت الحكومة العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة حسين قبطان باشا، وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم
في حملة من جهة البر كما تقدم.
مشاهدة المرفق 61926

ارتقاؤه منصة الأحكام​


وكان محمد علي في جند القوة البحرية، وقد تجند إليها في جملة من تجند في براوسطة بصفة معاون لعلي آغا بن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني (أرناءوط).


فجاءت العمارة إلى أبي قير، وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي آغا إلى بلاده تاركًا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بيكباشي.


ثم تغلَّب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنكليزية وحملة الصدر الأعظم ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين، وجعلوا يهتمون في تأييد سلطة الباب العالي فيها.


وكان في الجنود العثمانية جماعات من الأرناءوط والإنكشارية والغليونجية، فتفرقت هذه الجنود لحماية مصر السفلى وبعض مدن الصعيد. أما الإنكليز فكانوا تحت قيادة الجنرال هتشنسون، فنزلوا الإسكندرية ريثما يُقِيمُون في القطر المصري واليًا عثمانيًّا يؤيد سلطة الباب العالي، ويكبح جماح المماليك الذين كانوا لا يزالون يحاولون الاستقلال.


فأقاموا محمد خسروا باشا المتقدِّم ذكره، وكان في الأصل من مماليك حسين قبطان باشا، وهو الذي سعى له في هذه الولاية. فجاء القاهرة وقاص الذين كانوا فيها من محالفي الفرنساوية. وكان في يده أوامر سرية بإعدام المماليك بأي وسيلة كانت، فبعث إلى محاربتهم وكانوا في الصعيد، فتضايقوا ولم يروا وسيلة إلا الالتجاء إلى فرنسا، فكتبوا إليها يستنجدونها متعهدين بإجراء كل ما تطلبه منه؛ فلم يسعدهم الحظ بمساعدتها.
 

ارتقاؤه منصة الأحكام​


وكان محمد علي في جند القوة البحرية، وقد تجند إليها في جملة من تجند في براوسطة بصفة معاون لعلي آغا بن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني (أرناءوط).


فجاءت العمارة إلى أبي قير، وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي آغا إلى بلاده تاركًا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بيكباشي.


ثم تغلَّب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنكليزية وحملة الصدر الأعظم ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين، وجعلوا يهتمون في تأييد سلطة الباب العالي فيها.


وكان في الجنود العثمانية جماعات من الأرناءوط والإنكشارية والغليونجية، فتفرقت هذه الجنود لحماية مصر السفلى وبعض مدن الصعيد. أما الإنكليز فكانوا تحت قيادة الجنرال هتشنسون، فنزلوا الإسكندرية ريثما يُقِيمُون في القطر المصري واليًا عثمانيًّا يؤيد سلطة الباب العالي، ويكبح جماح المماليك الذين كانوا لا يزالون يحاولون الاستقلال.


فأقاموا محمد خسروا باشا المتقدِّم ذكره، وكان في الأصل من مماليك حسين قبطان باشا، وهو الذي سعى له في هذه الولاية. فجاء القاهرة وقاص الذين كانوا فيها من محالفي الفرنساوية. وكان في يده أوامر سرية بإعدام المماليك بأي وسيلة كانت، فبعث إلى محاربتهم وكانوا في الصعيد، فتضايقوا ولم يروا وسيلة إلا الالتجاء إلى فرنسا، فكتبوا إليها يستنجدونها متعهدين بإجراء كل ما تطلبه منه؛ فلم يسعدهم الحظ بمساعدتها.

محمد علي وخسرو باشا​


أما الحملة التي بعثها خسرو باشا إلى الصعيد، فإنها عادت ولم تأتِ بفائدة، ثم حاربهم مرارًا في أماكنَ مختلفة. وفي جملتها واقعة بعث إليها حملة من جنده، وكان محمد علي قد ترقَّى إلى رتبة سرششمة وصار قائدًا لأربعة آلاف من الألبانيين، فأمره أن يسير في رجاله مددًا لتلك الحملة، فسارت الحملة وحاربت المماليك وانكسرت قبل وصول محمد علي ورجاله. فنسب قائدها انكساره إلى تأخُّر محمد علي عن المجيء وأبلغ ذلك لخسرو باشا. وكان هذا حاقدًا على محمد علي، فاستقبل ذلك البلاغ بالصدق وأَقَرَّ على إعدامه سرًّا. وكتب إليه أن يوافيه في منتصف الليل للمخابرة ببعض الشئون، فأدرك محمد علي مراده ولم يُجِبِ الدعوة.

ولم يَرَ وسيلة لنجاته من مكيدته وعدوانه إلا بالالتجاء إلى المماليك، فانحاز إليهم وأخذ في مخابرتهم سرًّا وجهرًا، فتمكنوا بذلك التحالف من إخراج خسرو باشا من القاهرة قهرًا. ففر إلى دمياط وأقاموا مكانه طاهر باشا. ولما قُتِلَ طاهر احتل محمد علي القلعة برجاله، فقام أحمد باشا والي الشرطة إذ ذاك يطلب الولاية، فأخرجه المماليك من القاهرة ذليلًا، ثم اتحد الجميع وساروا لمحاربة خسرو باشا في دمياط، فأسروه وجاءوا به إلى القاهرة وحجروا عليه في القلعة.

أما الباب العالي فلما بلغه ما حصل في مصر بعث إليهم واليًا اسمه علي باشا الجزائرلي، فلم يصل القاهرة إلا بعد شق الأنفس، ولما وصلها عمد إلى الكيد بالمماليك ومحمد علي فعادت العائدة عليه.

(ب) الألفي والبرديسي​


وكان الألفي والبرديسي زعيما المماليك يتنازعات السلطة. وكان الألفي قد سار إلى إنكلترا يطلب مساعدتها على رفيقه للاستئثار بالسيادة. فلما عاد من سفرته اغتنم محمد علي تلك الفرصة، وأوغر صدر مناظره البرديسي عليه فنصب له مكيدة لم يقع فيها ولكنه فَرَّ إلى الصعيد. فظن البرديسي أن جو القاهرة قد خلا له، ولكن محمد علي كان له بالمرصاد فحرك الألبانيين عليه، وأوعز إليهم أن يثيروا ويطالبوا بمرتباتهم، فقاموا وهددوا البرديسي بالأذى إذا لم يدفع إليهم المتأخرات. فضرب على أهل القاهرة أموالًا واستبد في تحصيلها بقساوة، فثاروا جميعًا عليه فاضطر إلى مغادرة القاهرة ولم يعُد يرجع إليها. وكل ذلك سنة ١٨٠٤.

فلما فر الأميران لم يبقَ في القاهرة من رجال السلطة إلا محمد علي وقد فرغت حاجته إلى المماليك بعد أن كادَ لهم كيدًا وشتت شملهم، فرأى أن يستعين بالأهلين في نيل ما تَتُوقُ إليه نفسه من المطالب، فجمع إليه العلماء والمشايخ وتفاوضوا في إخلاء سبيل خسرو باشا، فأقروا على ذلك وأن يعود إلى منصبه فأعادوه ولكنه لم يمكُث فيه إلا يومًا واحدًا، ثم أخرجوه من القاهرة إلى رشيد ومنها إلى الأستانة. وكل ذلك بمساعي محمد علي وحسن درايته وإتقان سياسته.

(ﺟ) خورشيد باشا​


ثم تظاهر أن الأمور لا تستقيم في مصر إلا بتنصيب والٍ عثماني حر، وأشار بتنصيب خورشيد باشا وكان في الإسكندرية. فوافقه العلماء والمشايخ في ذلك على أن يكون هو نائبًا عنه في الأحكام بصفة قائمقام، وبعثوا إلى الباب العالي يخبرونه بذلك، ويسترحمونه بتثبيت انتخابهم فأجيب طلبهم بفرمان مؤرَّخ في مارس سنة ١٨٠٤ هذا نصه:
إننا كنا صفحنا ورضينا عن الأمراء المصرلية (المماليك) على موجب الشروط التي شرطناها عليهم بشفاعة علي باشا والصدر الأعظم، فخانوا العهود ونقضوا الشروط، وطَغَوْا وبَغَوْا وظلموا، وقتلوا الحُجاج وغدروا علي باشا المولَّى عليهم (يريد علي باشا الجزائرلي) وقتلوه ونهبوا أمواله ومتاعه، فوجهنا عليهم العساكر في ثمانين مركبًا حربية، وكذلك أحمد باشا الجزار بعساكر بَرِّيَّةٍ للانتقام منهم ومن العسكر الموالين لهم، فورد الخبر بقيام العساكر عليهم، ومحاربتهم لهم وقتلهم وإخراجهم، فعند ذلك رضِينا6 عن العسكر لجبرهم ما وقع منهم من الخلل الأول، وصفحنا عنهم صفحًا كليًّا وأطلقنا لهم السفر والإقامة متى شاءوا وأينما أرادوا من غير حرج عليهم، وولَّينا حضرة أحمد باشا خورشيد كامل الديار المصرية؛ لما علمنا فيه من حسن التدبير والسياسة ووفور العقل إلخ.
 

الإجماع على تولية محمد علي​


وفي ٢ صفر سنة ١٢٢٠ ورد لمحمد علي باشا خط شريف بولاية جدة، فألبسه خورشيد باشا الفروة والقاووق المختصَّيْن بهذه الرتبة، وقد توسم قرب تخلُّصه منه، فخرج محمد علي باشا يريد الذهاب إلى جدة، وفي نفسه أن لا يخرج من مصر، فقامت العساكر وطالبوه بالعلوفة فقال: «هذا هو الباشا طالِبُوه بها.» وسار إلى منزله في الأزبكية — قرب أوتيل شبرد — وهو ينثر الذهب على الناس فازدادوا له حبًّا ولخورشيد باشا كرهًا.

وبعد ثلاثة أيام — لا ندري ما دار في أثنائها بينه وبين علماء البلاد ومشايخها — سار المشايخ والعلماء جميعًا إلى محمد علي في منزله، ينادون بصوت واحد: «لا نقبل خورشيد باشا واليًا علينا.» فقال: «ومن تريدون إذن؟» قالوا: «لا نريد أحدًا سواك.» فامتنع أولًا وجعل يرغبهم في خورشيد ويحملهم على الإذعان والسكنية، وهم لا يزدادون إلا إصرارًا على طلبهم، فوافقهم فأحضروا له الكرك والقفطان وألبسوه إياهما، وبعثوا إلى خورشيد أن ينزل من القلعة فأبى فحاصروه فيها، وكتبوا إلى الباب العالي بذلك فوَرَدَ الفرمان بولاية محمد علي في ١١ ربيع آخر سنة ١٢٢٠ﻫ/٩ يوليو (تموز) ١٨٠٥، وعزل خورشد باشا فخرج هذا من القلعة بأمر من الأستانة، وغادر البلاد وفي نفسه من الغيظ على محمد علي ما ليس وراءه غاية.

(ﻫ) الألفي ومحمد علي​


وكان المماليك لا يزالون منتشرين في جهات القطر يحكمون ويستبدُّون، وكان الألفي مقيمًا في الصعيد، وقد التف حوله جمهور من المماليك، وحالما علم بتولية محمد علي باشا نزل بفرسانه طالبًا خَلعه، وتخابر مع خورشيد باشا ليساعده في غرضه، وتعهد أنه إذا فعل ذلك يعيد الأحكام ليده، ويكون بعد ذلك خاضعًا لأوامر الدولة العثمانية ضاربًا بسيفها، هذا إذا كانت تخلع محمد علي باشا. وخابر من الجهة الثانية دولة إنكلترا ووعدها أنها إذا عضدت مشروعه هذا يكون مستعدًّا أن يسلمها أبواب القطر المصري حالًا. فعلم بذلك قنصل فرنسا فعرقل مسعاه، فعكف على مصالحة محمد علي باشا على شيء يرضى به الاثنان، فحصلت المخابرات فلم يتَّفِقا، فعاد الألفي إلى مسعاه ثانية بواسطة سفير إنكلترا في مصر، فطلب هذا إلى الباب العالي بالنيابة عن دولته إرجاع سلطة المماليك إلى البلاد، وتعهَّد بأمانة الألفي وخضوعه لأوامر الدولة. فقبل الباب العالي بذلك فأصدر عفوًا عامًّا عن المماليك باسم أميرهم الكبير الألفي، فوصله في غرة ربيع آخر سنة ١٢٢١ﻫ، وفي ١٤ الشهر المذكور وصل القاهرة خبر قدوم عمارة عثمانية تُقِلُّ موسى باشا مرسلًا من قبل الباب العالي واليًا على مصر، ومعه عدة من العساكر المنظمة على النظام الجديد، وخط شريف إلى محمد علي باشا أن ينتقل إلى ولاية سلانيك، وأن يرجع المماليك المصرية إلى مراكزهم في الإمارات والأحكام.

(و) سعي محمد علي وحزمه​


فخاف محمد علي من حبوط المسعى، فأخذ الأمر بالحزم والحكمة فرأى أن أحزاب المشايخ والعلماء جميعها معه، وانضم إليهم بعض المماليك الذين كانوا في الأصل من الجيش الفرنساوي، وظلوا في مصر بعد سفر الحملة لعدم إمكانهم مرافقتها، واعتنقوا الديانة الإسلامية وانضموا إلى المماليك، فاستكتبهم كتابًا إلى الباب العالي يطلبون فيه استبقاء محمد علي باشا، وإرجاع موسى باشا ويبينون الأسباب الموجبة لذلك. فكتبوه وأمضوه وأرسلوا منه نسخة إلى الأستانة، وأخرى إلى قبطان باشا قائد العمارة التي أتت بموسى باشا. فأجابهم القبطان أن ما قدَّموه من الأعذار غير مقبول ولا بد من خروج محمد علي باشا من مصر حالًا. وكان لسفير فرنسا في الأستانة رغبة شديدة في بقاء محمد علي باشا على مصر لِما علم من عزم الألفي على تسليم البلاد للدولة الإنكليزية، فسعى جهده مع قبطان باشا في بقاء محمد علي باشا، وعلم بعد ذلك أن المماليك لم ينفكوا منذ وجودهم في مصر عثرة في سبيل حقوق الدولة، وأنهم منقسمون فيما بينهم لا يتفقون على أمر.

فرأى طلب أهل البلاد أقرب إلى الصواب فكتب إليهم أن يعيدوا طلبهم، وأن يبعثوا الطلب مع ابن محمد علي باشا. فكتبوه وأرسلوه مع ابنه إبراهيم بك على يد قبطان باشا. وفي ٥ شعبان سنة ١٢٢١ برحت العمارة العثمانية الإسكندرية، وعليها قبطان باشا وموسى باشا وإبراهيم بك.

وفي أواخر شعبان/نوفمبر (ت٢) سنة ١٨٠٦م، وردت الأوامر الشاهانية بتثبيت محمد علي باشا على ولاية مصر، مع الإيعاز إليه أن لا يتعرض للمماليك بعد ذلك لصدور العفو عنهم قبلًا. وفي الشهر التالي مات عثمان البرديسي. وفي ١٩ ذي القعدة سنة ١٢٢١ﻫ/يناير (ك٢) سنة ١٨٠٧م تُوُفِّيَ محمد الألفي. وهما زعيما أحزاب المماليك، فولوا عليهم شاهين بك رئيسًا، إلا أنهم مع ذلك لم تَعُدْ تقوم لهم قائمة وقد خلا الجو لمحمد علي باشا.

(ى) مقا​

 

مقاومة الإنكليز لمحمد علي​


ثم إن الحكومة الإنكليزية اعتبرت تثبيت محمد علي مخلًّا بنفوذها ومضرًّا بمصالحها، فجردت حملة من ثمانية آلاف مقاتل تحت قيادة الجنرال فرازر لإرجاع سلطة المماليك، وكانوا قد تبعثروا في البلاد، فوصل الإنكليز الإسكندرية في ٩ محرم سنة ١٢٢٢ﻫ/١٧ مارس (آذار) سنة ١٨٠٧م مُظهرين حماية القطر من الفرنساوية، فاستولوا على المدينة في ٢١ محرم، وظلوا فيها ستة أشهر لا يستطيعون انتقالًا إلى ما وراءها. وكانوا قد أرسلوا فرقة منهم إلى رشيد فمزقتها سيوف الأرناءوط كل مُمَزَّقٍ، وفي يوم الخميس ٥ جمادى الآخرة سنة ١٢٢٣ﻫ استقال السلطان مصطفى، وسِنُّه ٢٣ سنة، فبويع السلطان محمود بن عبد الحميد (محمود الثاني).

fig080



شكل ٣-٣: السلطان محمود الثاني.

وفي ١٣ رجب سنة ١٢٢٢ﻫ/١٤ سبتمبر (أيلول) سنة ١٨٠٧ انسحبت الجيوش الإنكليزية باتفاق صُلح مع القُطر، فاستتبت القوة لمحمد علي باشا، وقد رضي جلالة السلطان عنه ودخلت الإسكندرية في ولايته. ثم سعى بعضهم في المصالحة بينه وبين المماليك فتمَّت بقدوم شاهين بك إلى مصر بالهدايا الثمينة. فأكرمه محمد علي وبنى له قصرًا نفيسًا لسكناه في الجيزة. ثم تبادلوا الزيارات وكل علائق المودة، وهكذا فعل سائر المماليك.

(١-٣) أعماله الحربية​


(أ) الحملة على الوهابيين​


فلما رسخت قدم محمد علي باشا في مصر أخذ في تسليم مصالح حكومته إلى من يَثِقُ بهم من ذوي قرباه؛ لأنه كان شديد المحبة لعائلته، ولا شك أن أزره اشتد بهم. ثم استفحل أمر الوهابيين في شبه جزيرة العرب، فأرسل السلطان محمود يعهد إلى محمد علي باشا أمر إخضاعهم وتخليص البلاد من أيديهم.

fig081



شكل ٣-٤: زعيم الوهابيين.

والوهابيون طائفة من المسلمين تذهب إلى إغفال الكتب الدينية الإسلامية إلا القرآن والحديث. زعيمها الأول محمد بن عبد الوهاب وُلِدَ في العيينة من إقليم العارض من نجد سنة ١١٠٦ﻫ/١٦٩٦، وكان أبوه شيخًا فقيهًا، فرُبِّيَ في حجره على المذهب الحنبلي ثم انتقل لإتمام دروسه في البصرة وهَمَّ بزيارة مكة والمدينة وعاد إلى بلده. ثم تزوج في الحريملة بالعارض، وأقام فيها واشتهر بين قومه بالتقوى وصدق التديُّن. وأنحى عليهم باللائمة لتقاعدهم عن الفروض الدينية، وإهمالهم قواعد الدين الأساسية، وبالغ في تعنيفهم حتى تآمر بعضهم على قتله، وتربصوا له في مكمن، فأدرك غرضهم ففر إلى بلده العيينة، وأخذ يجتذب الأحزاب إليه من أهله وأبناء قبيلته بالوعظ والمراسلة والإقناع، فالتف حوله جماعة من الأنصار في بلدته وما يحيط بها من البلاد.

وجاءته امرأة عاهرة تلتمس التوبة على يده فردَّها أولًا وثانيًا. فجاءته ثالثة فاستغرب أمرها وسأل القوم إذا كانت مجنونة فقالوا: إنها في كمال عقلها لكنها شردت عن طريق التقوى وتريد الرجوع إليها. فحكم عليها بالإعدام لأن ضميرها لم يوبخها يوم ارتكبت تلك الرذائل. وعلم بهذا الحكم الجائر أمير الحسا فبعث إلى شيخ العيينة أن يقتل محمد بن عبد الوهاب أو ينفيه. فأمر بإخراجه من بلده على أن يدس له من يقتله.

وبلغ نفيه مسامع بعض أتباعه في الدرعية من إقليم العارض المذكور، وأميرهم يدعى محمد بن سعود، فتقدموا إليه أن يأذن باستقدامه إليهم، فأذن لهم بذلك، فبعثوا إلى شيخ العيينة أن يوجهه إليهم. فبعثه في خفارة فارس أَسَرَّ إليه أن يقتله غيلة في أثناء الطريق. فهَمَّ الفارس أن ينفذ ذلك الأمر مرارًا وهو يؤجله، واتفق أنه هَمَّ بالعمل أخيرًا وهو على مقربة من الوفد الذي أرسله ابن سعود لاستقبال ذلك المنفي. ولم يكد الفارس يطعنه حتى جاء أولئك للدفاع عنه وقد كاد يُقتَل.

فدخل محمد بن عبد الوهاب الدرعية فأحسن ابن سعود وفادته إكرامًا لأتباعه، ووعد بحمايته ممَّنْ يناوئه، وأذن له في نشر تعاليمه. ففعل ونفوذه يزداد وأنصاره يتكاثرون وشهرته تتسع. فأخذ يكاتب مشايخ القبائل يدعوهم إلى نبذ الرذائل والرجوع إلى الكِتاب والسُّنَّة، وأنهم إذا لم يفعلوا حمل عليهم بأهل درعية جهادًا في سبيل الحق. فأذعن له كثيرون وقاومه آخرون، فمن وافقه انتقل إليه في درعية. فتزايد أنصاره فيها وفي غيرها من إقليم العارض، وأكثرهم في العيينة وحريملة ودرعية والعمارية والمنفوحة.
 

مذبحة المماليك​


أما المماليك فكانوا قد يئِسوا من الاستقلال بالأحكام، بعد أن رأوا ما حل بسلفائهم وما عليه محمد علي باشا من العزيمة، فكفوا عن مطامعهم واكتفوا بالتمتع بأرزاقهم وممتلكاتهم في حالة سلمية. فقطن بعضهم الصعيد وبعضهم القاهرة وتشتتوا في أنحاء القطر. وكان شاهين بك — وهو الذي تولى رئاستهم بعد وفاة الألفي — قد أذعن لمحمد علي باشا كما تقدَّم. فأقطعه أرضًا بين الجيزة وبني سويف والفيوم فأوى إليها. وفي محرم سنة ١٢٢٦ﻫ/فبراير (شباط) سنة ١٨١١م سار قُوَّادُ الحملة من القاهرة، وعسكروا في قبة العزب في الصحراء ينتظرون سائر الحملة ومعها طوسون باشا. وتعين يوم الجمعة لوداع طوسون والاحتفال بخروجه ورِجَالِهِ إلى قبة العزب، فأعلن ذلك في المدينة، ودُعِيَ كل الأعيان لحضور ذلك الاحتفال، وفي جملتهم المماليك، وطلب إليهم أن يكونوا بالملابس الرسمية.


ففي يوم الجمعة ٥ صفر سنة ١٢٢٦ﻫ/أول مارس (آذار) سنة ١٨١١م احتشد الناس إلى القلعة، وجاء شاهين بك في رجاله، فاستقبلهم الباشا في قصره بكل ترحاب. ثم قُدِّمَتْ لهم القهوة وغيرها، ولما تكامل الجمع وجاءت الساعة أمر محمد علي بالمسير، فسار الموكب وكُلٌّ في مكانه منه جاعلين المماليك إلى الوراء يكتنفهم الفرسان والمشاة. حتى إذا اقتربوا من باب العزب من أبواب القلعة في مضيق بين هذا الباب والحوش العالي، أمر محمد علي فأُغلِقَت الأبواب وأشار إلى الألبانيين (الأرناءوط)، فهجموا على المماليك بغتة، فانذعر أولئك وحاولوا الفرار تسلُّقًا على الصخور، ولكنهم لم يفوزوا؛ لأن الألبانيين كانوا أكثر تعوُّدًا على تسلقها. واقتحم المشاة المماليك من ورائهم بالرصاص، فطلب هؤلاء الفرار بخيولهم من طرق أخرى، فلم يستطيعوا لصعوبة المسلم على الخيول، ولما ضُويِقَ عليهم ترجَّل بعضهم وفروا سعيًا على أقدامهم والسيوف في أيديهم، فتداركتهم الجنود بالبنادق من الشبابيك فقُتِلَ شاهين بك أمام ديوان صلاح الدين. وحاول بعضهم الالتجاء إلى الحريم أو إلى طوسون باشا بدون فائدة. ثم نودي في المدينة أن كل من يظفر بأحد المماليك في أي محل كان يأتي به إلى كخيا بك، فكانوا يقبضون عليهم ويأتون بهم إليه أفواجًا وهو يقتلهم.


fig158



شكل ٣-٥: أمين بك (المملوك الشارد).

وكان عدد المماليك المدعوين إلى الوليمة أربعمائة، فلم ينجُ منهم إلا اثنان؛ أحدهما: أحمد بك زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير، كان غائبًا بناحية موش. والثاني: أمين بك، أتى القلعة متأخرًا فرأى الموكب سائرًا نحو باب العزب فوقف خارج الباب ينتظر خروج الموكب. ثم لما أُقفِلت الأبواب بغتة وسمع إطلاق النار أدرك المكيدة، فهمز جواده وطلب الصحراء قاصدًا سوريا. والمتناقَل على الألسنة أن أمين بك هذا كان داخل القلعة فعندما حصلت المعركة همَز جواده فوثب به من فوق السور لجهة الميدان فقُتِلَ جواده وسلم هو، وقد صوروا تلك الإشاعة في الرسم (شكل ٣-٥) والأقرب للحقيقة أن هذه الإشاعة مختلقة أو مبالغ فيها. ثم نودي في الأسواق أن شاهين بك زعيم المماليك قُتِلَ فخافت الناس ثم طافت العساكر في المدينة ينهبون بيوت المماليك ويأخذون حريمهم وجواريهم وعلا الصياح.

وفي اليوم التالي نزل الباشا من القلعة وطوسون معه، وطاف المدينة يأمر الناس بإيقاف النهب وقتل كل من حاول ذلك، ولكنه حرَّض على قبض من يظفرون به من المماليك في سائر أنحاء القُطر، فكانوا يأتون بهم أفواجًا يسوقونهم كالغنم إلى الذبح. فبلغ عدد من قُتِلَ من البكوات ٢٣ بيكًا. وفي اليوم التالي نزل طوسون باشا إلى الأسواق في فرقة من الجند لتسكين القلوب وإيقاف النهب. أما الجثث التي كانت في القلعة فاحتفروا لها حفرًا جعلوا فوقها التراب وصرح محمد علي باشا بحماية نساء المماليك ولم يسمح بتزويجهن إلا إلى رجاله.


 

عود إلى الوهابيين​


ولما خلت البلاد من المماليك عكف محمد علي على المهام الأخرى، وأخصها مسألة الوهابيين فكتب إلى غالب شريف مكة يخبره بإعداد حملة تنقذه من الوهابيين، فيفتح طريق الحرمين لجميع المسلمين، وطلب إليه أن يمهد له السبيل. فأجابه شاكرًا ووعد بالمساعدة.


أما سعود أمير الوهابيين فأنبأته الجواسيس بما نواه محمد علي، فأمر فاجتمع حوله خمسة عشر ألفًا ليدفع بهم جنود مصر. أما حملة طوسون فركبت البحر من السويس حتى أَتَتْ ينبُع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، ومنها يتصل إلى المدينة فتملكوا ينبع وساروا منها إلى صفر، وفيها معسكر الوهابيين، وقد تأهبوا للدفاع، فهجم طوسون باشا فتقهقر سعود ورجاله أولًا، ثم ارتدُّوا على الجيوش المصرية فانهزموا وتركوا مؤنهم وذخائرهم وجِمالهم وعادوا إلى ينبع. فعلم محمد علي باشا بذلك فجنَّد جندًا كبيرًا مددًا لابنه، فاشتد أزر طوسون وجمع إليه القوتين، وسار حتى أتى المدينة فأطلق عليها القنابل فهدم بعض السور ثم دخلها وأثخن في حاميتها حتى سلَّمت فكف السيف عنها. فانتشر خبر افتتاح المدينة في سائر الحجاز فخاف الوهابيون وفرِح أعداؤهم ولا سيما الشريف غالب. وقد كان في جدة لا يدري ماذا يكون من أمر تلك الحملة، فلما علم بانتصارها كاد يطير من الفرح.


وأجلى الوهابيون عن مكة خوفًا من أهلها، فجاءها طوسون واحتلها، وكتب إلى أبيه ففرح فرحًا لا مزيد عليه لما آتاه الله من النصر على يد ابنه نصرًا لم يتأتَّ لغيره من القُوَّاد العثمانيين. وجيء إليه بقائد حامية المدينة من الوهابيين، فأرسله في خفر إلى الأستانة فقتلوه حال وصوله إليها. أما من بقي من دعاة الوهابيين فكانوا لا يزالون في أمن خارج مكة تحت قيادة كبيرهم سعود.


فلما جاء صيف سنة ١٨١٣ / سنة ١٢٢٨ﻫ علِموا أن جنود طوسون لا يحتملون حَرَّ تلك البلاد، وأنهم إذا ناهضوهم إذ ذاك ربما تَغَلَّبُوا عليهم، فجندوا وساروا إلى تربة شرقي مكة، فحاربوها واستولَوْا عليها ثم ساروا إلى المدينة وهددوها بعد أن استولوا على كل ما بين هاتين المدينتين من القرى والمدن. فاتَّصل الخبر بمحمد علي فلم ير بُدًّا من ذهابه بنفسه لنصرة الجنود المصرية، وقد أصبحت مصر في مأمن من المماليك وغيرهم، فسار في جُندٍ عظيم حتى أتى جدة فنزلها في ٣٠ شعبان سنة ١٢٢٨ﻫ/٢٨ أغسطس (آب) سنة ١٨١٣م، فلاقاه الشيخ غالب شريف مكة ورحب به. وبعد أن أدى فروض الحج رأى أن الشريف ليس ممَّن يُعوَّل عليهم في الدفاع، فعمد إلى خلعه بطريقة تضمن حقن الدماء ففاز، ثم وضع يده على ممتلكاته، وبعث به وبعائلته إلى القاهرة، ومنها إلى سالونيك فعاش فيها أربع سنوات ومات.


أما الوهابيون فمات قائدهم سعود في درعية في ٢٦ ربيع آخر سنة ١٢٢٩ﻫ/١٧ أبريل (نيسان) سنة ١٨١٤م، فانحطت سطوتهم فأقاموا عليهم ابنه عبد الله، ولم يكُن كفؤًا فحصلت بينه وبين الجنود المصرية مناوشات كثيرة لم تأتِ بنتيجة. وفي ٢٨ محرم سنة ١٢٣٠ﻫ/١٠ يناير (ك٢) سنة ١٨١٥م حصلت معركة كبيرة بين جنود محمد علي والوهابيين تحت قيادة فيصل أخي عبد الله، شفَّت عن انتصار المصريين. فتقدم طوسون إلى نجد إلا أنه اضْطُرَّ أخيرًا إلى التوقف لقلة المؤن وهو لم يبلغ درعية.


ثم اقتضت الأحوال عود محمد علي إلى مصر، فعاد وقد فتح طريق الحرمين ولكنه لم يُبِدْ جميع الوهابيين. فوصل القاهرة في ٤ رجب سنة ١٢٣٠ﻫ، فاهتم بتدريب الجند على نظام جند أوروبا، وهو أول من فعل ذلك في مصر فأصدر أمرًا عاليًا في شعبان سنة ١٢٣٠ﻫ مؤدَّاه أن الجنود المصرية ستدرب على النظام الحديث وهو النظام الفرنساوي، فعظم على الجهادية ولا سيما الأرناءوط الامتثال إلى هذه الأوامر، فرأى أن يدخل هذا النظام أولًا بين الجنود الوطنية؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من هؤلاء الألبانيين، ومن كان من شاكلتهم، وسنعود إلى ذلك.


وفي أثناء ذلك عاد طوسون باشا من الحجاز، فخرج الناس لملاقاته بالاحتفال والإكرام، ثم نزل الإسكندرية حيث كان أبوه مقيمًا فوجد امرأته قد وضعت في أثناء غيابه غلامًا دعته عباسًا. وبعد يسير أُصِيبَ طوسون بأَلَمٍ شديد في رأسه وحُمًّى لم يعش بعدها إلا قليلًا، واختلفت الروايات في أسباب موته وكيفيته ومكانه، ولكنهم اتفقوا أن موته كان شديد الوطأة على أبيه. ونُقِلَتْ جثة طوسون باشا إلى القاهرة، ودفنت قرب مسجد الإمام الشافعي وراء جبل المقطم حيث مدفن العائلة الخديوية اليوم.


وبعد قليل عاد محمد علي إلى رُوعِه فأخذ يهتم في أمر الوهابيين؛ خشية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكتب إلى عبد الله بن سعود أن يأتي إليه بالأموال التي استخرجها الوهابيون من الكعبة، وأن يتأهب متى قدم للمسير إلى الأستانة. فأجابه يعتذر عن الشخوص وقال: «إن تلك الأموال قد تفرقت على عهد أبيه.» وأرسل له هدايا فاخرة فأرجع إليه محمد علي تلك الهدايا وأوسعه تهديدًا. ثم جرد إليه حملة عهد قيادتها إلى ابنه إبراهيم باشا، وكان باسلًا مِقدامًا وقائدًا مجرِّبًا لا يهاب الموت، شديد الغضب سريعه، ولكنه كان سليم القلب حر الضمير؛ ولذلك كانت أحكامه عادلة صارمة.


وفي ١٠ شوال سنة ١٢٣١ﻫ سار إبراهيم باشا بحملته من القاهرة في النيل إلى قنا، ومنها في الصحراء إلى القصير على شاطئ البحر الأحمر، ومنها بحرًا إلى ينبع ثم إلى المدينة، وتربَّص هناك بجميع قواته يستعد لهجوم شديد امتثالًا لمشورة أبيه. فْالْتَفَّ حوله عصبة جديدة من القبائل المتحابة، ولما تكاملت قواته أقام الحرب سِجَالًا، وما زال بين هجوم ودفاع حتى فاز، وقبض على زعيم الوهابيين عبد الله فأوصله إلى أبيه، فوصل القاهرة في ١٨ محرم سنة ١٢٣٣ﻫ فأُذِنَ له بالمثول بين يدي الباشا وتقبيل يديه، فرحب به كثيرًا لأنه كان يعجب بشجاعة الوهابيين، ثم سأله ما ظنه بإبراهيم فأجابه قائلًا: «إنه قد قام بما عليه ونحن قمنا بما علينا وهكذا أراد الله.» وفي ٢٠ محرم أُرْسِلَ إلى الأستانة وطافوا به في أسواقها ثلاثة أيام ثم قتلوه. وخَلَعَ السلطان على إبراهيم باشا خلعة شرف مكافأة له وسماه واليًا على مكة. فاتصلت هذه الأخبار بدرعية فخاف أهلها فهدموا المدينة وفروا من وجه الموت، فاحتلتها الجنود الظافرة وانتهى أمر الوهابيين. أما محمد علي باشا فإنه نال من إنعام السلطان لقب خان مكافأة لإخلاصه وبسالته، وهو لقب لم يُمْنَحْ لأحد من وزراء الدولة إلا حاكم القرم.
 

(ب) فتح السودان​


ولما انتهى هذا الرجل الخطير من حروبه في بلاد العرب، فكر في فتح السودان على أمل أن يلاقي فيها الكنوز الثمينة من مناجم الذهب بجوار البحر الأزرق، ناهيك بما هنالك من المحصولات والواردات العجيبة من الصمغ والريش والعاج والرقيق وغير ذلك. فجنَّد خمسة آلاف من الجند النظامي وبعض العربان وثمانية مدافع، وجعل الجميع تحت قيادة إسماعيل باشا أحد أولاده. فسارت الحملة من القاهرة في شعبان عام ١٢٣٥ﻫ/يونيو (حزيران) ١٨٢٠م في النيل، فقطعت الشلال الأول فالثاني فالثالث حتى السادس، فأتت شندي والمتمة وقد أخضعت كل ما مرت به من القرى والبلدان بدون مقاومة. ومن شندي سارت إلى سنار على البحر الأزرق وراء الخرطوم.

ولم يكن من القبائل التي يعتد بها هناك إلا الشائقية فقاوموا قليلًا ثم سلموا، ودخلت سنار وكوردوفان في أمراك مصر. فسار إسماعيل باشا في جنوده إلى فزغل، وهناك ظن نفسه اكتشف معادن الذهب. ثم فشا في رجاله الوباء فمات منهم كثيرون وأتته نجدة من ثلاثة آلاف رجل بقيادة صهره أحمد بك الدفتردار، فاشتد أزره فأقام صهره هذا على كردوفان وسار في جيش إلى المتمة على البر الغربي من النيل، ثم عدَّى إلى شندي في البر الشرقي لجباية المال وجمع الرجال. فاستدعى إليه ملكها واسمه النمر وقال له: «أريد منك أن تأتي إليَّ قبل خمسة أيام بملء قاربي هذا من الذهب، وألفين من العساكر.» فجعل ذلك الملك يستعطف إسماعيل باشا ليتنازل عن ذلك القدر، فقبل منه أخيرًا عوضًا عن الذهب مبلغ عشرين ألف ريال من الفضة.

فأجابه إلى ما أراد ولكنه لم يكُن يستطيع جمعها في تلك المدة، فطلب إليه تطويل الأجل، فضربه إسماعيل بالشبق (الغليون) على وجهه قائلًا: «لا، إن كنت لا تدفع المال فورًا ليس لك غير الخازوق جزاء.» فسكت الملك النمر وقد أضمر له الشر وصمم على الانتقام، فطيَّب خاطره ووعده بإتمام ما يريد. وفي تلك الليلة جعل يرسل التبن الجاف أحمالًا إلى معسكر إسماعيل علفًا للجمال، ولكنه أقامه حول المعسكر كأنه يريد إشعاله. وفي المساء أتى إلى إسماعيل في سرب من الأهلين ينفخون بالمزمار ويرقصون رقصة خاصة بهم. فطرب إسماعيل وضباطه لذلك، ثم أخذ عدد المتفرجين من الوطنيين يتزايد شيئًا فشيئًا حتى أصبح كل أهل المدينة هناك. فلما تكامل العدد أمرهم ملكهم بالهجوم فجهموا بغتة على إسماعيل ورجاله، ثم داروا بالنيران على التبن فأشعلوه فمات إسماعيل باشا وكثيرون ممَّن كانوا معه بين قتل وحرق. وفي اليوم التالي أتموا على الباقين وساقوا سلبهم إلى المدينة.

فاتصل الخبر بأحمد بك الدفتردار فاشتعل غيظًا، وأقسم أنه لا يقبل أقل من عشرين ألف رأس انتقامًا لإسماعيل، فنزل بجشيه القليل حتى أنفَذ قَسَمَهُ فقتل ذلك العدد من الرجال متفننًا في طرق قتلهم على أساليب مختلفة. فهدأت الأحوال بعد ذلك وهكذا تم افتتاح السودان. وما زال أحمد بك الدفتردار على حكومة سنار وكردوفان إلى عام ١٢٤٠ﻫ/عام ١٨٢٤م ثم أُبْدِلَ برستم بك.

(ﺟ) حرب المورا​


وفي عام ١٢٣٩ﻫ أرسل محمد علي باشا بأمر الباب العالي حملةً مصريةً تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا لمحاربة المورا في بلاد اليونان، فسار وحارب، وأظهرت العمارة المصرية في تلك الحروب شجاعة الأبطال، ولولا اتحاد الدول مثنى وثُلاث على الجنود العثمانية والمصرية، لما قامت لليونان قائمة في تلك الحرب، ولكننا نقول إن إبراهيم باشا عاد عَوْدَ الظافرين بعد أن بذل في سبيل ذلك عشرين مليون فرنك وثلاثين ألف مقاتل.

(د) فتح سوريا​


ثم كانت حملة إبراهيم باشا على سوريا لافتتاح عكا لأسباب ترجع إلى مطامع محمد علي في توسيع مملكته وإنشاء دولة مستقلة. وأما البواعث الظاهرة لتلك الحملة، فهي أن الأمير بشيرًا الشهابي الكبير أمير لبنان جاء مصر سنة ١٨٢١ يلتمس من محمد علي التوسُّط لدى الباب العالي في العفو عن عبد الله باشا والي عكا؛ لأن الدولة كانت تحب محمد علي باشا وتعد خاطره على أثر ما أوتيه من النصر في حرب الوهابيين بعد أن تعبت هي في قهرهم.

وكان محمد علي باشا إذ ذاك في شاغل من أمر الحرب في المورا، وكانت الدولة قد بعثت إليه أن يُجَنِّدَ جُنْدًا لمحاربتها، فلما جاءه الأمير بشير مستنجدًا طيَّب خاطره ووعده بالمساعدة، وكتب إلى الباب العالي بذلك وأسكن الأمير في بني سويف ريثما يرِد الجواب، وشدد في طلب العفو تشديدًا كبيرًا؛ لأنه كان راغبًا في امتلاك قلب الأمير ولسانه؛ ليكون له عونًا في ما نواه من فتح الشام.

ولبث الأمير في مصر حتى وردت الأوامر بالعفو عن عبد الله باشا فحملها شاكرًا، بعد أن تداول مع محمد علي باشا سرًّا بشئون كثيرة تعود إلى مقاصد الباشا في بر الشام. وسار الأمير من مصر إلى عكا بكل إكرام مصحوبًا بسلاحدار الباشا حاملًا الفرمان بالعفو، فوصلوا عكا فسُرَّ عبد الله باشا بفوزه. ولكن الجنود العثمانية في الشام طلبت النفقات المعينة في مثل هذا الصلح، ولم يكن عند عبد الله باشا نقود، وكان الأمير قد جاء بنحو نصف القدر اللازم من محمد علي، فضرب عبد الله باشا الباقي على المقاطعات وأخذ بعضها من الأمير.

وجرت حوادث كثيرة انتهت بالتباعد بين الأمير وعبد الله باشا. وكان محمد علي لما جاءه الأمير بشير بواسطة العفو عن عبد الله باشا أَسَرَّ إليه عزمه على فتح الشام، وطلب نصرته فوعده سرًّا ولبث ينتظر فرصة أو حجة. وكان يظن أن صنعه الجميل مع عبد الله باشا والأمير يكفي لبلوغ أمانيه، ولكنه رأى من عبد الله باشا اعوجاجًا عن غرضه. والغالب أن عبد الله كان طامعًا بمثل مطامع محمد علي، فلما علم بما نواه هذا صار يحاذره.
 

فرمان ولاية محمد علي على مصر​


رأينا بسرور ما عرضتموه من البراهين على خضوعكم، وتأكيد أمانتكم وصدق عبوديتكم لذاتنا الشاهانية ولمصلحة بابنا العالي. فطول اختباركم وما لكم من الدراية بأحوال البلاد المسلمة إدارتها لكم من مدة مديدة لا يتركان لنا ريبًا بأنكم قادرون بما تُبدُونه من الغيرة والحكمة في إدارة شئون ولايتكم على الحصول من لَدُنَّا الشاهاني على حقوق جديدة من تعطُّفاتنا الملوكية وثقتنا بكم. فتقدرون في الوقت نفسه إحساناتنا إليكم قدرها، وتجتهدون ببث هذه المزايا التي امتزتم بها في أولادكم. وبمناسبة ذلك صممنا على تثبيتكم في الحكومة المصرية المبينة حدودُها في الخريطة المرسومة لكم من لَدُنْ صدرنا الأعظم، ومنحناكم فضلًا عن ذلك ولاية مصر بطريق التوارث بالشروط الآتي بيانها: متى خلا منصب الولاية المصرية تعهد الولاية إلى من تنتخبه سُدَّتُنَا الملوكية من أولادكم الذكور، وتجري هذه الطريقة نفسها بحق أولاده وهلم جرًّا. وإذا انقرضت ذريتكم الذكور لا يكون لأولاد نساء عائلتكم الذكور حق أيًّا كان في الولاية وإرثها. ومن وقع عليه من أولادكم الانتخاب لولاية مصر بالإرث بعدكم يجب عليه الحضور إلى الأستانة لتقليده الولاية المذكورة. على أن حق التوارث الممنوح لوالي مصر لا يمنحه رتبةً ولا لقبًا أعلى من رتبة سائر الوزراء ولقبهم، ولا حقًّا في التقدُّم عليهم، بل يعامل بذات معاملة زملائه. وجميع أحكام خطنا الشريف الهمايوني الصادر عن كلخانة وكافة القوانين الإدارية الجاري العمل بها أو تلك التي سيجرى العمل بموجبها في ممالكنا العثمانية، وجميع العهود المعقودة أو التي ستُعقد في مستقبل الأيام بين الباب العالي والدول المتحابَّة يتبع الإجراء على مقتضاها جميعها في ولاية مصر أيضًا. وكل ما هو مفروض على المصريين من الأموال والضرائب يجري تحصيله باسمنا الملوكي. ولكيلا يكون أهالي مصر وهم من بعض رعايا بابنا العالي مُعَرَّضِين للمَضَارِّ والأموال والضرائب غير القانونية، يجب أن تنظم تلك الأموال والضرائب المذكورة بما يوافق حالة ترتيبها في سائر المماليك العثمانية وربع الإيرادات الناتجة من الرسوم الجمركية، ومن باقي الضرائب التي تتحصل في الديار المصرية يتحصل بتمامه ولا يخصم منه شيء، ويؤدَّى إلى خزينة بابنا العالي العامرة والثلاث الأرباع الباقية تبقى لولايتكم لتقوم بنفقات التحصيل والإدارة المدنية والجهادية، وبنفقات الوالي وبأثمان الغلال الملزَمة مصر بتقديمها سنويًّا إلى البلاد المقدسة مكة والمدينة. ويبقى هذا الخراج مستمرًّا دفعه من الحكومة المصرية بطريقة تأديته المشروحة مدة خمس سنوات، تبتدي من عام ١٢٥٧ﻫ — أي من يوم ١٢ فبراير سنة ١٨٤١ — ومن الممكن ترتيب حالة أخرى بشأنهم في مستقبل الأيام تكون أكثر موافقة لحالة مصر المستقبلة ونوع الظروف التي ربما تَجِدُّ عليها. ولما كان من واجبات بابنا العالي الوقوف على مقدار الإيرادات السنوية، والطرق المستعملة في تحصيل العشور وباقي الضرائب، وكان الوقوف على هذه الأحوال يستلزم تعيين لجنة مراقبة وملاحظة في تلك الولاية، فينظر في ذلك فيما بعدُ ويجري ما يوافق إرادتنا السلطانية. ولما كان من اللزوم أن يعين بابنا العالي ترتيبًا لسك النقود لما في ذلك من الأهمية، بحيث لا يعود يحدث فيها خلاف لا من جهة العيار ولا من جهة القيمة، اقتضت إرادتي السَّنِيَّة أن تكون النقود الذهبية والفِضِّيَّة الجائز لحكومة مصر، ضربها باسمنا الشاهاني معادلة للنقود المضروبة في ضربخاناتنا العامرة بالأستانة، سواء كان من قبيل عيارها أو من قبيل هيئتها وطرزها.

ويكفي أن يكون لمصر في أوقات السلم ثمانية عشر ألف نفر من الجند للمحافظة في داخلية مصر، ولا يجوز أن تتعدى ولايتكم هذا العدد. ولكن حيث إن قوات مصر العسكرية مُعَدَّةً لخدمة الباب العالي كسائر قوات المملكة العثمانية، فيسوغ أن يزاد هذا العدد في زمن الحرب بما يرى موافقًا في ذلك الحين. على أنه بحسب القاعدة الجديدة المُتَّبَعة في كافة ممالكنا بشأن الخدمة العسكرية، بعد أن تخدم الجند مدة خمس سنوات يُستَبدلون بسواهم من العساكر الجديدة. فهذه القاعدة يجب اتِّباعها أيضًا في مصر بحيث ينتخب من العساكر الجديدة الموجودة في الخدمة حالًا عشرون ألف رجل ليبتدئوا الخدمة، فيحفظ منها ثمانية عشر ألفًا في مصر، وترسل الألفان لها لأداء مدة خدمتهم. وحيث إن خُمس العشرين ألف رجل واجبٌ استبدالهم سنويًّا، فيؤخذ سنويًّا من مصر أربعة آلاف رجل حسب القاعدة المقررة من نظام العسكرية، حيث سحب القرعة بشرط أن تُستعمل في ذلك مواجب الإنسانية والنزاهة والسرعة اللازمة، فيبقى في مصر ثلاثة آلاف وستمائة من الجنود الجديدة والأربعمائة يُرسَلُون إلى هنا، ومن أتم مدة خدمته من الجنود المرسلة إلى هذا الطرف ومن الجنود الباقية في مصر يرجعون إلى مساكنهم، ولا يسوغ طلبهم للخدمة مرة ثانية. ومع كون مناخ مصر ربما يستلزم أقمشة خلاف الأقمشة المستعملة لملبوسات العساكر، فلا بأس من ذلك فقط يجب أن لا تختلف هيئة الملابس والعلامات التمييزية ورايات الجنود المصرية عن مثلها من ملابس ورايات باقي الجنود العثمانية. وكذا ملابس الضابطات وعلامات امتيازهم، وملابس الملاحين وعساكر البحرية المصرية ورايات سفنها، يجب أن تكون مماثلة لملابس ورايات وعلامات رجالنا وسفننا. وللحكومة المصرية أن تعين ضباطًا برية وبحرية حتى رتبة الملازم، أما ما كان أعلى من هذه الرتبة فالتعيين إليها راجع لإرادتنا الشاهانية. ولا يسوغ لوالي مصر أن ينشئ من الآن فصاعدًا سفنًا حربية إلا بإذننا الخصوصي. وحيث إن الامتياز المُعطى بوراثة ولاية مصر خاضع للشروط الموضَّحة أعلاه، ففي عدم تنفيذ أحد هذه الشروط موجِب لإبطال هذا الامتياز وإلغائه للحال. وبناء على ذلك قد أصدرنا خطنا هذا الشريف الملوكي؛ كي تقدروا أنتم وأولادكم قدر إحساننا الشاهاني فتعتنوا كل الاعتناء بإتمام الشروط المقررة فيه، وتحملوا أهالي مصر من كل فعل إكراهي، وتكفلوا أمنيتهم وسعادتهم مع التحذر من مخالفة أوامرنا الملوكية، وإخبار بابنا العالي عن كل المسائل المهمة المتعلقة بالبلاد المعهودة ولايتها لكم. ا.ﻫ.
 

فرمان ولايته على السودان​


ثم صدر فرمان آخر يُثَبِّتُ ولايته على النوبة ودارفور وكردوفان وسنار هذا نصه:
إن سُدَّتَنَا الملوكية كما توضح في فرماننا السلطاني السابق قد ثبتتكم على ولاية مصر بطريق التوارُث بشروط معلومة وحدود معينة. وقد قلدتكم فضلًا عن ولاية مصر ولاية مقاطعات النوبة والدارفور وكوردوفان وجميع توابعها وملحقاتها الخارجة عن حدود مصر، ولكن بغير حق التوارث. فبقوة الاختبار والحكمة التي امتزتم بهما تقومون بإدارة هاته المقاطعات وترتيب شئونها بما يوافق عدالتنا، وتوفير الأسباب الآيِلَة لسعادة الأهلين وترسلون في كل سنة قائمة إلى بابنا العالي حاوية بيان الإيرادات السنوية جميعها. وحيث إنه يحدث من وقت لآخر أن تهجم الجنود على قرايا المقاطعات المذكورة، فيأسرون الفتيان من ذكور وإناث، ويبقونهم في قبضة يديهم لقاء رواتبهم، وحيث إن هذه الأمور مما تفضي معها الحال ليس فقط لانقراض أهالي تلك البلاد وخرابها، بل إنها أمور مخالفة للشريعة الحقة المقدسة، وكلا هاتين الحالتين ليست أقل فظاعة من أمر آخر كثير الوقوع وهو تشويه الرجال ليقوموا بحراسة الحريم، ذلك ممَّا ليس ينطبق على إرادتنا السنية مع مناقضته كل المناقضة لمبادئ العدل والإنسانية المنتشرة من يوم جلوسنا المأنوس على عرش السلطنة السنية. فعليكم مداركة هذه الأمور بما ينبغي من الاعتناء لمنع حدوثها في المستقبل، ولا يبرح عن بالكم أن فيما عدا بعض أشخاص توجَّهوا إلى مصر على أسطولنا الملوكي قد عفوتُ عن جميع الضابطات والعساكر، وسائر المأمورين الموجودين في مصر. نعم بموجب فرماننا السلطاني السابق أن تسمية الضابطان المصرية لما فوق رتبة المعاون تستلزم العرض عنها لأعتابنا الملوكية إلا أنه لا بأس من إرسال بيان بأسماء من رقَّيتم من ضباط جنودكم إلى بابنا العالي؛ كي ترسل لهم الفرمانات المؤذنة بتثبيتهم في رتبهم، هذا ما نطقت به إرادتنا السامية، فعليكم الإسراع في الإجراء على مقتضاها. ا.ﻫ.

فأصبحت حكومته بعد ذينك الفرمانين محصورة في مصر والسودان. وبمقتضى ذلك تنازل محمد علي باشا عن عشرة آلاف من جنود سوريا، فلم يبقَ عنده إلا ثمانية عشر ألفًا بين مشاة وفرسان وغيرهم. فاضطر إذ ذاك إلى الاقتصاد لإصلاح مالية البلاد، فأوقف كثيرًا من المدارس العمومية التي كان قد خصص مبالغ معلومة للنفقة، ومن ضمنها مدرسة شبرا الزراعية وأبدل الأساتذة الأوروباويين لما بَقِيَ من المدارس بأساتذة أتراك أو وطنيين، وسار من ذلك الحين في خطة الإصلاح قانعًا بما قسم له من البلدان فعمل على إرضاء جلالة السلطان، فأنفذ إلى جلالته ابنه سعيد باشا لتقديم فروض العبودية.

 
القائمة الجانبية للموقع
خرّيج وتبحث عن عمل؟
تعيينات العراق
هل أنت من عشاق السفر حول العالم؟
إكتشف أجمل الأماكن
هل أنت من عشاق التكنولوجيا؟
جديد التكنولوجيا
عودة
أعلى أسفل