ابن الحته
من اهلنا
صبوته وشبيبته
صبوته وشبيبته
قرية اسمها قواله لا يزيد عدد سكانها على الثمانية آلاف نفس. وكان في تلك القرية رجل اسمه إبراهيم آغا
كان متولِّيًا خفارة الطرق، وُلِدَ له سبعة عشر ولدًا لم يعِش منهم إلا واحد.
وفي سنة ١٧٧٣ تُوُفِّيَ هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسِنُّه أربع سنوات واسمه محمد علي.
فأصبح الغلام يتيمًا ليس له من يعوله إلا عمًّا اسمه طوسون آغا،
وكان متسلمًا على قواله، فجاء به إلى بيته شفقة عليه. غير أن المَنِيَّة عاجلت طوسون فقُتِل
بأمر الباب العالي بعد ذلك بيسير، فأصبح الغلام يتيمًا قاصرًا وليس من ينظر إليه.
غير أن ذلك لم يُنسِه حاله من اليُتم فكان يشعر بالذل وضعة النفس.
ويُروَى عنه بعد أن ارتقى ذروة المجد، واعتلى منصة الأحكام أنه كان يحدث عما قاساه في صبوته من الذل إلى أن يقول:
وُلِدَ لأبي سبعة عشر ولدًا لم يعِش منهم سواي، فكان يحبني كثيرًا ولا تغفل عينه عن حراستي كيفما توجهت.
ثم توفاه الله فأصبحت يتيمًا قاصرًا، وأبدل عزي بذُلٍّ،
وكثيرًا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها عمري،
وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعس بعد أن فقد والديه!»
فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل.
فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهِمَّة غريبة،
حتى كان يمر عليَّ أحيانًا يومان ساعيًا لا آكل ولا أنام إلا شيئًا يسيرًا.
وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرًا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره،
وكنت صغيرًا فتركني رفاقي وحدي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب كان معنا، فجعلت أجاهد في الماء وسعي،
تتقاذفني الأمواج وتستقبلني الصخور حتى تهشَّمت يداي
— وكانتا لا تزالان يانعتين — وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالمًا،
وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسمًا من مملكتي.
ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنساوي مقيم في قواله اسمه المسيو ليون،
وكان من كبار التجار محبًّا للفضيلة، وحالما رأى محمد علي للمرة الأولى أشفق عليه وأحب مساعدته؛
لما توسم فيه من الفطنة والنباهة فكان يقدم له كثيرًا من حاجياته، ويسعفه بكل ما في وسعه،
حتى ألفه محمد علي كثيرًا. وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر،
واستخدمه أفرادًا منهم في مصلحة البلاد. ويقال: إنه — رحمه الله — بعث سنة ١٨٢٠ إلى الموسيو ليون
المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنًا في ضيافته، فأجاب دعوته ولكنه مات قبل قدومه،
فأسِف عليه محمد علي كثيرًا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.
قلنا: إنه رُبِّيَ في صبوته ببيت جربتجي براوسطة وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف
والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشُدَّه انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه،
فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقَّاه إلى رتبة بلوك باشي وزوَّجه إحدى أزواج قرابته،
وكانت مطلَّقة ولها مال وعقار فترك الجهادية وتعاطى التجارة، وعلى الخصوص في صنف التبغ؛
لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده. وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة وثقة عظمى لدى عملائه.
وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛
ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.
وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة ١٨٠١ حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا.
فبعثت الحكومة العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة حسين قبطان باشا، وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم
في حملة من جهة البر كما تقدم.
ثم توفاه الله فأصبحت يتيمًا قاصرًا، وأبدل عزي بذُلٍّ،
وكثيرًا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها عمري،
وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعس بعد أن فقد والديه!»
فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل.
فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهِمَّة غريبة،
حتى كان يمر عليَّ أحيانًا يومان ساعيًا لا آكل ولا أنام إلا شيئًا يسيرًا.
وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرًا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره،
وكنت صغيرًا فتركني رفاقي وحدي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب كان معنا، فجعلت أجاهد في الماء وسعي،
تتقاذفني الأمواج وتستقبلني الصخور حتى تهشَّمت يداي
— وكانتا لا تزالان يانعتين — وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالمًا،
وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسمًا من مملكتي.
ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنساوي مقيم في قواله اسمه المسيو ليون،
وكان من كبار التجار محبًّا للفضيلة، وحالما رأى محمد علي للمرة الأولى أشفق عليه وأحب مساعدته؛
لما توسم فيه من الفطنة والنباهة فكان يقدم له كثيرًا من حاجياته، ويسعفه بكل ما في وسعه،
حتى ألفه محمد علي كثيرًا. وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر،
واستخدمه أفرادًا منهم في مصلحة البلاد. ويقال: إنه — رحمه الله — بعث سنة ١٨٢٠ إلى الموسيو ليون
المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنًا في ضيافته، فأجاب دعوته ولكنه مات قبل قدومه،
فأسِف عليه محمد علي كثيرًا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.
قلنا: إنه رُبِّيَ في صبوته ببيت جربتجي براوسطة وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف
والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشُدَّه انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه،
فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقَّاه إلى رتبة بلوك باشي وزوَّجه إحدى أزواج قرابته،
وكانت مطلَّقة ولها مال وعقار فترك الجهادية وتعاطى التجارة، وعلى الخصوص في صنف التبغ؛
لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده. وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة وثقة عظمى لدى عملائه.
وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛
ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.
وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة ١٨٠١ حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا.
فبعثت الحكومة العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة حسين قبطان باشا، وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم
في حملة من جهة البر كما تقدم.