٢٦ أيلول ١٩٣٢..افتتاح ثانوية كلية بغداد.. أول المدارس الأهلية وأرقاها
لماذا اختيرت منطقة الصليخ للكلية؟
يرجع مجيء الآباء اليسوعيين إلى العراق إلى بدايات العقد الثاني من القرن العشرين، فبعد قيام الحكم الوطني في العراق عام 1921 وتحسن الظروف في بغداد أكثر من ذي قبل، شرع رئيس الكنيسة الكاثوليكية في العراق الأب مار أيمانوئيل الثاني توماس (Mar Emmanuel ll Thomas) الذي كان أحد خريجي جامعة سانت جوزيف في بيروت (جامعة تابعة للآباء اليسوعيين) ، بتقديم التماس إلى روما يطلب فيه فتح كلية للآباء اليسوعيين في بغداد، تبعها طلبات عدة من عدد من أساقفة الكلدان والسريان والأرمن، فضلا عن قساوسة كاثوليك من مذاهب شرق أوسطية مختلفة وقادة مسيحيين آخرين في العراق بتقديم عريضة رفعت باسمهم إلى البابا بيوس السادس لغرض إرسال مبعوث خاص من روما لدراسة إمكانية أنشاء مثل هكذا مشروع.
مع نهاية عقد العشرينات من القرن الماضي، وافق الباب بيوس الحادي عشر على مواصلة الاتصالات والمشاورات بشأن المهمة المزمع القيام بها في العراق، وقام بتكليف عدد من الآباء للإشراف على سير ذلك المشروع والسفر إلى العراق لدراسة إمكانية إقامته.
كان طموح الأمريكان ومنذ فترة العشرينات يستند وبشكل رئيس بالعمل على تأسيس مدرسة ثانوية في بغداد، لتكون بمثابة نواة لجامعة أمريكية شبيهة بالجامعة الأمريكية في بيروت. فقد أراد الأب ولش منذ البداية بعد انتدابه رسمياً لهذه المهمة أن يحضر عرضاً أولياً عن هذا المشروع والإحاطة به من جميع الجوانب، فتوجه إلى روما أولاً للحصول على المعلومات الممكنة التي تتعلق بتفاصيل العمل المناط به وذلك عام 1930. وبعد حسم الخلاف الذي نشب حول قضية التمويل المادي الذي تبنته مؤسسة الرفاه الكاثوليكية في الشرق الأدنى وتبني الآباء اليسوعيين لمسألة تزويد المؤسسة التي ستقام بالطاقم التعليمي، توجه الأب ولش بعدها من روما إلى بيروت مباشرة فدمشق ثم العراق مقصده الأخير.
وفي أوائل شهر كانون الثاني عام 1931 وصل إلى العاصمة بغداد البروفسور ولش اليسوعي، وكان في تلك المدة يشغل منصب نائب رئيس جامعة جورج تاون في واشنطن. وكان موفداً بمهمة بابوية تتلخص بدراسة أحوال التربية والثقافة في العراق. ان الأب ولش ضمن موافقة الحكومة العراقية على أنشاء مدرسة للتعليم العالي في العراق بشرط أن يبدأ بمدرسة ثانوية، الأمر الذي دفعه إلى أن يقوم بجولة في عدد من المدن العراقية، إذ التقى بقادة مسيح أكدوا له بوجود حاجة ملحة داخل العراق إلى أنشاء مؤسسة تعليمية قوية ذات نوعية عالية.
وفي هذه المدة تحديداً، أظهر القائمون على التربية في العراق رغبتهم الشديدة للاستعانة بالخبرات الأمريكية لغرض دراسة الحالة التربوية في العراق، ومعالجة مشاكل التعليم وجاءت هذه الرغبة في ضوء قرار مجلس الوزراء في حزيران 1931، القاضي بتخويل وزارة المعارف لاتخاذ التدابير اللازمة لاستقدام لجنة من الخبراء الأمريكان. كما تقرر في أواسط 1931، الاستعانة بأول خبير أمريكي وهو البروفسور بول مونرو (Ball Monro) الذي شغل مدير أحد معاهد كلية المعلمين التابعة لجامعة كولومبيا في نيويورك، ثم تتابع بعد ذلك وصول عدد من الخبراء الأمريكان التربويين إلى العراق، منهم الخبير جورج كلوس (George Clous).
على الرغم من أن المساعي لتأسيس كلية بغداد بدأت منذ عام 1928، إلا أنها لم تفتح أبوابها إلا في السادس والعشرين من أيلول عام 1932،، وذلك لأن الفرنسيين الكاثوليك، الذين كانوا يمارسون نشاطهم في العراق لم يكونوا سعداء أبداً من فكرة قدوم اليسوعيين الأمريكان للعراق، لذلك فان الأب ولش نصح بان تكون بغداد هي المنطقة الوحيدة التي يمكن أن يعمل فيها اليسوعيون دون أن يثيروا معارضة الفرنسيين الذين كانوا يشكلون حجر عثرة أمام الاباء، وهذا ما حصل فعلاً. من ناحية أخرى فإن أفراد البعثة اليسوعية الأربعة الذين طلب منهم الإشراف على إنشاء الكلية في بغداد، تم إبلاغهم رسمياً بأن مستلزمات البدء بهذا المشروع جهزت بما فيها المبالغ المالية التي أعدت لتمويله، والتي كان وعد بها الحبر الأعظم في روما بتوفيرها لتسيير عمل المشروع، البالغة 50 ألف دولار، إذ أصبحت جاهزة لتوضع تحت تصرفهم.
بدأت كلية بغداد بداية بسيطة ومتواضعة في دار مستأجر شرقي نهر دجلة في منطقة يطلق عليها اسم المربعة، الواقعة في شارع الكيلاني والقريبة جداً من شارع الرشيد. برعاية وإشراف الآباء اليسوعيين الأمريكان التابعين لمقاطعة نيوانكلند، وفي ضوء نظام تعليمي عريق وطويل يمتد إلى أربعمائة عام والذي كان على اتصال بالعراق واحتياجاته التعليمية المعاصرة ومما ينبغي الانتباه إليه، هو أن الاسم الذي كان مقرراً لكلية بغداد في البداية هو
(Baghdad College of the Immaculate conception)، وهذا الاسم وجد في الوثيقة التي وقعّت من قبل المؤسسين للجمعية التعليمية العراقية الأمريكية التي تشكلت في أميركا عام 1932.
ان للنجاح الذي لاقته كلية بغداد والقائمون عليها بفعل الإقبال الكبير عليها سبباً كافياً في أن يتخذ الآباء اليسوعيون قرارهم بنقل موقع الكلية بعد مرور عامين على افتتاحها، إذ وقع اختيار الآباء على الحافة الشمالية لبغداد في منطقة الصليخ وذلك في عام 1934، فقد تم استئجار بيت يقع على ضفاف نهر دجلة، وهي مبنية على الطراز العربي القديم ومؤلفة من طابقين مع وجود رواق حول الطابق الثاني، استخدمت قسماً من الدار كسكن للآباء في حين خصص القسم الآخر لشؤون الدراسة وما يتعلق بها. وقد استمرت الدراسة في هذا الدار حتى عام 1936، وبعبارة أخرى أن التدريس في كلية بغداد منذ تأسيسها حتى عام 1936 كان يجري في بنايات مستأجرة إلى أن تم شراء أرض قريبة من العقار المؤجر في الصليخ من قبل الجمعية التعليمية العراقية الأمريكية، هذه الأرض الجديدة تقرر أن تكون موقعاً ثابتاً لكلية بغداد، تبعد حوالي أربعة أميال شمال مركز العاصمة بغداد وهي عبارة عن أرض زراعية تبلغ مساحتها حوالي (25) ايكر.
تباينت الآراء حول سبب اختيار الموقع المذكور لكلية بغداد، فهناك من يرى أن الآباء اليسوعيين اختاروا هذه المنطقة لعدة عوامل، أهمها موقعها الممتاز وهواؤها النقي وهدوءها الشامل وبالتالي العمل بحرية في هذا المكان الواقع في منطقة بعيدة عن مركز المدينة ومشاكل الناس وعن كل ما يعكر صفو الدراسة، مما يدل على أن الآباء كانوا يقدرون جيداً ما للموقع الصحي من تأثير على المستوى العلمي والثقافي للطلبة، فضلاً عن ذلك، أنه كلما كان المكان كبيراً كلما توسع وازداد عدد الطلبة المقبولين في الكلية، الأمر الذي يتطلب حتماً تحسين كفاءة الخدمة التعليمية والتربوية المقدمة للطلبة. في حين علل آخرون بأن سبب الانتقال هذا يعود إلى رخص تلك الأراضي، إذ كانت منطقة الصليخ تقع في أطراف بغداد، وهي عبارة عن أراض زراعية وبساتين ومن الطبيعي أن تكون قيمتها المادية اقل بكثير من المناطق الداخلة في حدود ونطاق مركز العاصمة بغداد، وتؤكد الشواهد التاريخية على أن الآباء اليسوعيين هم أول من شيّد بنايات كبيرة وحديثة في تلك المنطقة. في حين كان هناك رأي آخر يتناقله الناس في بغداد يرى أن سبب اختيار هذا الموقع بالذات كان لدوافع دينية، إذ أن هذه المنطقة المسماة (الشماسية) فيما مضى كانت تحفل بعدد من الأديرة التي تضم في جنباتها عدة كنائس مسيحية أهمها، دير (درمالس) و(دير سمالوا).
مهما يكن من أمر، فان اختيار الآباء لضاحية الصليخ ربما يعود إلى دراسات تاريخية قديمة، ولكن ما يجب ذكره في هذا الموضع هو أن اعتدال مناخ المنطقة ونقاء هوائها والهدوء السائد فيها، فضلاً عن وقوعها بالقرب من نهر دجلة وإحاطتها بالبساتين، هو الرأي الأرجح وراء اختيار ذلك المكان. وهكذا نجد أن أكثر التقارير المرفوعة إلى معارف بغداد عن طريق المفتشين الذين زاروا الكلية، وصفتها بأنها تقع في منتصف حديقة غناء تحيط بها الأشجار المختلفة من كل جانب، وهي بحكم موقعها هذا بعيدة كل البعد عن مشاكل الناس وضوضاء المدينة. على أية حال، قرر الآباء اليسوعيون إشغال العقار الجديد في ضاحية الصليخ موقعاً ثابتاً لكليتهم، والممتد من نهر دجلة غرباً وحتى واجهة الصحراء شرقاً، واستمر إشغالهم لهذا العقار طول الفترة الممتدة من عام 1936 حتى استيلاء الدولة عليه عام 1969.
المصدر :مجلة الكاردينيا