. الشريعة الإسلامية شريعة ربانية، نزلت لتنظيم علاقة الناس فيما بينهم، وتنظيم علاقتهم مع ربهم ومع أنفسهم، وهي لا تنحاز لأحد على حساب أحد، بل تضع الأحكام العادلة لكل القضايا، ومن ذلك ما يتعلق بتقسيم الميراث بعد الوفاة. وفي بعض النظم المعاصرة يقسم الإنسان ثروته كما يشاء، وقد يعطي صديقه، ويحرم ولده أو أخاه، وهكذا كان في الجاهلية يقسم الميراث باعتبارات تتناسب مع مفهومهم عن الحياة الاجتماعية، فكانوا لا يورثون إلا من يدافع عن العشيرة بسلاحه، وهذا يعني حرمان النساء والأطفال الذين هم أكثر الناس حاجة إلى مال يبدؤون فيه حياتهم بما يغنيهم عن الحاجة للآخرين، وما يتبعه من استعبادهم بطريقة أو بأخرى. وأما الشريعة الإسلامية فقد جاءت لتعطي كل ذي حق حقه، حيث أعطت الرجال وأعطت النساء بحسب درجة القرب من الشخص المتوفى، وبحسب الأعباء الاقتصادية التي كلف بها كل شخص في المجتمع، وعلى هذا الأساس قام نظام الميراث، وهو في الشريعة الإسلامية يعتبر تملكًا إجباريًّا، بمعنى أن الشخص إذا توفي انتقلت ملكية تركته إلى ورثته بنسبة ما لكل واحد منهم من حصة في التركة بموجب التقسيم الشرعي(القسام الشرعي)، فلا يستطيع المورث أن يحرم وارثاً، ولا أن يغير مقدار حصته، كما لا يستطيع الوارث أن يرفض ما كتب الله له من حصة في الميراث، ويمكن له أن يتنازل عن حصته، لكن بعد أن تثبت ملكيتها له، ومن ذلك أن الشريعة الإسلامية جعلت للمرأة حقًّا في ميراث أبيها وأخيها وابنها وزوجها وغيرهم من القرابات، وقد كانت محرومة في الجاهلية. وأما أخذ المرأة نصف ما يأخذه الرجل إذا تساوت معه في درجة القرب، فله سببه، وهو أن الواجبات الاجتماعية والاقتصادية على الرجل أكبر منها على المرأة بموجب الشريعة الإسلامية، وهي شريعة متكاملة، وعلى سبيل المثال: المفروض في الرجل والواجب عليه شرعاً إذا تزوج أن يدفع مهرًا لزوجته، وقد يكون قنطارًا من الذهب كما أشارت إليه الآية القرآنية الكريمة، كما قد يكون عشرة دراهم كما ذكر بعض الفقهاء، بينما أخته إذا تزوجت تقبض المهر المشار إليه من زوجها، وقد يكون كثيرًا أو قليلًا، وبعد الزواج الرجل مكلف بالإنفاق على زوجته وأولاده، بينما أخته المتزوجة ينفق عليها زوجها كما ينفق على أولادها منه، وبعملية حسابية سريعة يتبين أن المحصول الاقتصادي من هذا النظام هو لصالح الزوجة، أو لصالح البنت، وليس ذلك غريبًا على الشريعة التي تحرص على كرامة النساء بشكل عام، ولا شيء يذل المرأة كما يذلها الفقر، أما إذا لم تتزوج فإن ما تأخذه من ميراث والدها يكفيها في الظروف العادية. ثم إن هناك حالات كثيرة تتساوى فيها حصة المرأة وحصة الرجل، منها إذا مات إنسان وله أب وأم وأولاد، فإن حصة الأب وحصة الأم متساوية، فكل منهما يأخذ السدس، وإذا كان الورثة إخوة للمتوفى من أمه، وكانوا أكثر من واحد، فإنهم يعطون جميعاً الثلث، ويقتسمونه بينهم بالتساوي. فنظام الميراث في الإسلام نظام دقيق، لم يتركه الله تبارك وتعالى لاجتهادات المجتهدين، بل حدده بالأرقام: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس، وهذا منتهى الدقة، وذلك لأن نسبة القرابة بين الناس لا تختلف باختلاف العصور. ولم تكن هناك مشكلة يوم كانت الشريعة الإسلامية تحكم حياة الناس؛ لأن التقسيم الذي بعد الوفاة يلبي مقتضيات الحياة المستقبلية للجميع، وأقول بعد الوفاة، أما قبل الوفاة فيجب على الأب والأم إذا أعطوا أولادهم هبات أن تكون متساوية، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) متفق عليه، ومن هنا قال الفقهاء: يجب على الأب أن يساوي في العطية أثناء الحياة بين الذكور والإناث، ولكن بعض النزغات الجاهلية تدخلت لتحتال على الشريعة الإسلامية، ونحن نقصد بالجاهلية كل نظام خالف الإسلام، لأن الإسلام هو الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال، بغض النظر عن مصدر ذلك الضلال. وقد وجدنا من الأساليب التي يلجأ إليها بعض الناس لتغيير الحصص في الميراث ما يلي: أولًا: أن تُمنع المرأة من الزواج ما لم تتنازل عن حصتها من الميراث لإخوتها. ثانيا: أن تُهدد بالقطيعة والهجر وعدم المناصرة إن هي أخذت حقها، فتتنازل عن ذلك الحق. ثالثا: أن تجري مصالحة رمزية بينها وبين إخوانها، فلا تأخذ من حقها إلا الشيء القليل. وهنالك أساليب شيطانية أخرى لا نحيط بها، لكنها تشترك في كونها إكراهًا حقيقيًّا بالقوة، أو نفسيًّا بحرمانها مما تتمتع به مثيلاتها، والقاعدة الشرعية تقول: ( كل ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام )، فكيف ما يؤخذ بالإكراه، إنه السحت الذي يؤكل صاحبَه نارا وعارا في الدنيا والآخرة، وينم عن نفسية جاهلية ما استنارت بنور الإسلام، ومن المؤسف أن نجد مثل هذه النفسيات اليوم، وقد مضى على نزول القرآن فينا أربعة عشر قرنا. ومما نعرفه أيضًا في واقع الناس اليوم أن بعض الآباء يسجل ما في ملكيته لأبنائه أثناء حياته ويحرم بناته، كي لا يرثن في المستقبل، وهذا مخالف للحكم الشرعي الذي يستند إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم)، وكلمة ولد في اللغة العربية تشمل الذكر والأنثى، أي الابن والبنت. ونحن لا ننكر أن هنالك بعض الأخوات اللاتي يتنازلن لإخوانهن عن شيء من الميراث عن طيب نفس، ولكنه قليل جدًّا، ويكون أثناء فترة الحزن على الوالد المتوفى. ولقطع دابر هذا الاستغلال لعواطف الحزن ينبغي أن يكون التنازل (التخارج) بعد فترة معقولة من وفاة الأب، حيث يذهب الحزن، ويصبح الجميع أمام واقعة جديدة. وإذا لم تأخذ المرأة حقها في الميراث فما عليها إلا أن تراجع القاضي الشرعي الذي سيقسم الميراث قسمة شرعية، ويعطي كل ذي حق حقه، وتتعاون معه على ذلك كل الدوائر الرسمية، مثل البنوك التي فيها الأرصدة، ودائرة التسجيل التي فيها قيود العقارات، والذين يعملون بما حكم به القاضي، فإذا سكتت عن حقها حتى ضاع فهي المسؤولة، وليست الشريعة الإسلامية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه)، فعلى صاحب الحق أن يطالب به مستعينا بالوسائل الشرعية المتاحة. وأما عن دور دائرة الإفتاء في هذه القضية فهي كدائرة قاضي القضاة، تبين حصص الوارثين في التركة، لكن الإجراءات الرسمية في هذا التقسيم لا بد فيها من حكم القاضي، علما أن وزارة الأوقاف - من خلال خطب الجمعة والوعظ والإرشاد - تحث المسلمين على إعطاء النساء حقوقهن في الميراث، وأصبحت هذه الكلمة مسموعة لدى الجميع، نتيجة للصحوة الإسلامية التي تعم بلاد المسلمين، فكل متدين يأبى أن يأكل حق أخته أو غيرها، ولهذا أجريت دراسة تبين فيها أن المناطق التي فيها العلم والتعليم والثقافة والوعي تقل فيها مشكلات أكل حقوق النساء، وإذا انبعث فينا الوازع الديني من جديد - ولا بد أن ينبعث - حُلَّتْ كل مشاكلنا. ولا يفوتنا التنبيه هنا على أن قضية ميراث المرأة ضُخِّمَت أكبر من حجمها الحقيقي؛ لأن الكثير من النساء يأخذن فعلا ما حكم به القاضي الشرعي بطيب نفس من جميع الورثة، كما أن بعض النساء يتنازلن عن حقهن عن طيب نفس لإخوانهن، نظرًا لظروف اجتماعية كالفقر، أو كونهم صغارًا يحتاجون إلى تعليم وإلى نفقات، أو لمساعدتهم على ظروف قاسية كالمرض وغيره، ومع ذلك يجب أن تعرف المرأة حقها كاملًا، ثم تتنازل عنه إن شاءت، وكم تمر بنا قضايا يتنازل فيها الإخوة الذكور عن حصتهم في البيت الذي تسكنه والدتهم وأخواتهم اللواتي لم يتزوجن، أو يتنازل بعض الإخوة الذكور لبعضهم مراعاة لظرف اقتصادي أو اجتماعي، فالتراحم والتعاون وصلة الأرحام ما زالت موجودة في مجتمعنا الخيِّر، وهذا ما علمنا إياه الإسلام، ولا يجوز تفسير كل حادثة تنازل على أنها ظلم للمرأة، فمجتمعنا أنقى وأنظف من هذه المظالم، خاصة إذا قارنَّاه بمجتمعات أخرى، يوصي أحدهم بماله وصية سخيفة لكلبه، أو خليلته، ويحرم أولاده أو إخوانه. فالحمد لله الذي كرمنا بالإسلام وأرشدنا إليه.