كتبه/ سامح بسيوني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
"نحن أحق وأولى بموسى منكم"؛ "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"؛ كلمات تأصيلية تقرع أذاننا مع بداية كل عام هجري جديد لتُصحح مفاهيمنا وتُضبط موازيننا، وتُقوم تصوراتنا فلا تختلط علينا الأوراق في خضم تلك الأمواج العاتية.
فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟!"، فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه.
وعنه أيضًا أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه: قالوا: يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع".
- فـقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أولى بموسى منكم"؛ شعار للموالاة بين المؤمنين عبر الزمان وفي أي مكان، وبيان لعظم رابطة الدين والإيمان التي هي أقوى من أية رابطة أخرى مهما كان.
فالمسلمون وإن تباعدت بهم الأماكن، وحالت دون لقياهم الأزمان: فهم أولى بولاية بعضهم بعضًا؛ كما قال تعالى: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"، فقد تآخى في دين الإسلام الحبشي بلال، والرومي صهيب، والفارسي سلمان، مع العربي القرشي تصديقًا عمليًّا لقول الله تعالى: "إنما المؤمنون إخوة".
والمسلمون في كل مكان وزمان تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم وأعراضهم، فدماء المسلمين واحدة، وأعراضهم وحقوقهم واحدة، كما أن دينهم واحد، فلا فرق بين دم وعرض هذا، ودم وعرض ذاك -طالما ثبت لهم الإسلام- وإن اختلفت الرؤى فيما يسع فيه الخلاف؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدّ مُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرّيهمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ".
والمسلم الطائع يُحبٌّ من كل وجه، بينما المسلم العاصي أو المبتدع فإنه يُحب من جهة إسلامه، ويُبغَض من جهة معصيته وبدعته، ويُنصَح ويُبيَّن له خطر معصيته وبدعته ويُرد عنها بكل ما هو متاح -طبقًا لقواعد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر-؛ لأن ذلك من حقوق الموالاة له، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: "تَمنعهُ من الظُّلم فَذَاك نصرك إِيَّاه" (مُتَّفق عَلَيْهِ).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"؛ شعار نبوي واضح لتأصيل مبدأ التمايز بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الملل والأديان، فالتمايز والتباين العقدي بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم يجب أن يكون واضحًا لا ريب فيه عند كل مسلم، فلا يدخل الجنة في الآخرة إلا من مات على دين الإسلام، كما قال عز وجل في كتابه: "وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين"، وقال أيضًا: "إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ"، وقال أيضًا: "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".
وقد حرص النبي عليه الصلاة والسلام على تأكيد ذلك التمايز بالإكثار من مخالفة أهل الكتاب -وهم الذين كانوا يساكنونه الأرض- حتى قالت اليهود: "ما يريد هذا الرجل أن يدعَ من أمرنا شيئًا إلا خالفنا فيه" (رواه مسلم).
ومع هذا التمايز العقدي الذي أقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم حين دخوله المدينة تبعه تمايز -وإن شئت فقل: تميز- أخلاقي وحضاري في التعامل مع المخالفين في العقيدة أو البعيدين عن مفاهيم الإسلام، كما وصف الله عز وجل هذه الأمة وميَّزها بقوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ"، وقال أيضًا: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".
فقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الأخلاق والمعاملات والسلوك في تعايشه مع يهود المدينة طبقًا لذلك العقد المطلق الجائز الذي عقده معهم في وثيقة المدينة في ذات الوقت الذي أعلن فيه مخالفتهم في عقائدهم وأعيادهم التي هي شعائر لدينهم، وفى عباداتهم كصيام عاشوراء كما بينا في الحديث السابق، حيث كُتب في دستور وثيقة المدينة: "وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين"، وتكفل لهم فيها بجميع أنواع الحقوق:
- فلم يقتل صلى الله عليه وسلم يهوديًّا إلا مَن خان وغدر، ولم يكره أحدًا منهم على الإسلام، عملًا بقوله سبحانه وتعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، وكتب في ميثاق المدينة: "لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم".
- ولم يصادر صلى الله عليه وسلم أملاك أحدٍ منهم، بل أقر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على تجارتهم معهم.
- وجعل لهم صلى الله عليه وسلم حق الحماية والدفاع عن المدينة مع المسلمين؛ فقد جاء في ميثاق المدينة: "وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة".
- وقام صلى الله عليه وسلم بالعدل معهم في المعاملة ورفع الظلم عن المظلومين منهم، كما جاء في صحيفة المدينة: "وأنه مَن تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم"، وحقق صلى الله عليه وسلم ذلك عمليًّا؛ ولو كان على حساب المسلمين.
فمِن ذلك أنه لما قتلَ أهلُ خيبر عبدَ الله بن سهل رضي الله عنه: لم يقض النبي صلى الله عليه وسلم عليهم بالدية، ولم يعاقبهم على جريمتهم، لعدم وجود البينة الظاهرة ضدهم، بل دفع النبي صلى الله عليه وسلم ديته من أموال المسلمين (والقصة في البخاري ومسلم).
- وكذلك لما اختصم الأشعث بن قيس ورجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض باليمن ولم يكن لعبد الله بيِّنة قضى فيها لليهودي بيمينه (وهي أيضًا في البخاري ومسلم).
- وقد وردت أخبار كثيرة في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعفو عن كل من أظهر الوفاء بالعهد من اليهود، ولا يعاقب إلا من شارك في الغدر أو أقر ورضي.
- لذلك لا بد لنا أن نعي أن عاشوراء ليس مجرد حدث تاريخي؛ إنما هو بيانٌ واضحٌ لقضية التمايز والتباين والتعايش بين أمة الإسلام وأمم الأرض كلها، وبيان كذلك لهذا التميز الأخلاقي والحضاري المطلوب من أبناء هذه الأمة في كل زمان ومكان.
فهل ستنضبط تصوراتنا في بداية عامنا بمثل هذه المفاهيم، وهل نستطيع أن نغرس تلك المعاني الشاملة واللازمة لعزة أمتنا ورفعة أوطاننا في أجيالنا القادمة في ظل تلك المحاولات المستمرة من الغرب والصهاينة لتدجين أجيالنا بمفاهيم الإبراهيمية والإنسانية المزعومة.
مَن لي بجيل مستجدٍّ لم يرث إلا عن الجـد القديـم الأبْعَـدِ
يرث ابن حفص في أصالةِ رأيه أو خــالدًا في عزمه المتـوقِّد