هي المدينة التي احتشد فيها كبار الفقهاء، والنحاة، والشعراء، والنجباء
وصف الرحالة لمدينة بغداد :-
ربما لم تنل مدينةً في التاريخ العربي الإسلامي ما يضاهي ما حظيت به مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية من ذكر و وصف لدى الرحالة العرب والمسلمين، فهي التي جمعت المكانة السياسية والعلمية والثقافية والحضارية لقرونٍ طويلة، وكان لعلمائها وأدبائها وأعلامها اليد الطولى في تشكيل الوعي والثقافة العربية الإسلامية عبر مختلف العصور وصولاً إلى اليوم.
لكنَّ المدينة التي احتشد فيها كبار الأطباء والفلكيين والعلماء، والفقهاء، والمتكلمين، والنحاة، والشعراء، والنجباء؛ هي ذاتها التي فقدت مكانتها ومساهمتها الحضارية في أعقاب اجتياحها من قِبَل المغول وذلك في سنة 656 هجرية (1258 م).
التاريخ المذكور أعلاه؛ يعتبره كثيرون بمثابة علامة فارقة وفاصلة في التاريخ المنطقة، إذ تبعه انحسار المساهمات العلمية والثقافية العربية والإسلامية بشكل كبير، ليس بفعل حرق المحتل الجديد لمكتبة بيت الحكمة أو قذفه كتبها ومقتنياتها في نهر دجلة فحسب؛ بل لأن هذا التاريخ كان بمثابة توطئة لدخول أمم أخرى سيطرت على المشهد السياسي، حيث أولى المغول ومن بعدهم المماليك والأتراك للبعد العسكري أولوية على حساب العناية بالعلوم والثقافة، وهو أمرٌ ما تزال منطقتنا تدفع ثمنه إلى اليوم.
صحيحٌ أن عاصمة الخلافة العباسية شهدت منعرجات كبيرة، وذلك منذ تأسيسها على يد أبي جعفر المنصور مروراً بوصولها لذروة تألقها في عهد المأمون، وليس انتهاءً بسيطرة البويهيين والسلاجقة عليها؛ غير أنها ظلت طيلة الفترة المذكورة، مركزاً للاشعاع العلمي والفكري ولو بشكل متقلِّب.
فبغداد العباسية كانت مقراً للمدارس الفقهية والفكرية والكلامية والنحوية (وإن كانت الغلبة للبصرة والكوفة)، كما كانت ملجأ للعلماء الذين لم يعثروا في بلادهم الأصلية على ما يعينهم على حفز طاقاتهم وقدراتهم، وقد استفادت هذه المدينة من سياسة الانفتاح التي انتهجها العباسيون تجاه الأمم الأخرى كالفارسية واليونانية والهندية، سواء أكان ذلك من خلال التقارب الجغرافي أو عبر قنوات الترجمة والمراسلات والسفارات.
وصف الرحالة لمدينة بغداد :-
وقد تناول الرحالة والجغرافيون والأدباء العرب والمسلمين فضائل مدينة بغداد وذلك خلال معيشتهم فيها أو حينما عبروها، وقد حَمَلت وصوفاتهم إجلالاً وتقديراً لمكانتها التي لم تكن تدانيها أيٍّ من مدن المشرق والمغرب الإسلامي وذلك لغاية منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.
وسنتناول هذه الوصوفات وذلك تبعاً للحقبة الزمنية التي عاشت فيها الشخصيات الجغرافية الرحَّالة التي تحدثت عن دار السلام، أي بغداد.
هو إبراهيم بن محمد، أبو القاسم الإِصْطَخْرِيّ الكرخي، جغرافي، رحالة ، يعود أصله إلى إصطخر الفارسية التي نشأ بها، وقد نبغ سنة 340هـ (952 م).
صاحب كتابي “مسالك الممالك” و “صور الأقاليم” وقد زوَّد مؤلَّفه الثاني بعددٍ من الخرائط التي تغطي المواضِع الجغرافية التي ارتادها.
والإصطخري يُنسب أيضاً إلى الكرخ الواقعة في مدينة بغداد ، ذلك لأنَّه أمضى فيها الشطر الأكبر من حياته، لذا فإن شهادته عن دار السلام في القرن العاشر الميلادي؛ تكتسب أهمية خاصَّة.
وقد وصف الإصطخري بدايات تأسيس بغداد قائلاً:” وأمَّا بغداد؛ فإنها مدينة مُحدَثة في الإسلام لم تكُن بها عِمارة، فابتنى المنصور المدينة في الجانب الغربي وجعل حواليها قطائع لحاشيته ومواليه وأتباعه مثل قطيعة الرَّبيع والحربيَّة وغيرهما، ثمَّ عُمِّرَت، فلمَّا كان في أيام المهدي؛ جعل معسكره في الجانب الشَّرقي فسُمِّيَ عسكر المهدي، ثمَّ عُمِّرَت بالناس والبنيان وانتقلت الخلافة إلى الجانب الشرقي..”.
الإصطخري يعتبر من أوائل الرحالة المسلمين ويزيد” وببغداد مساجد جوامع في ثلاثة مواضع في مدينة المنصورة وفي الرصافة وفي دار الخِلافة، وتتصِل العِمارة والبنيان بكلواذي وبها مسجد جامع فلو عُدَّ في جُملة بغداد لجاز”.
“وقد عُقِدَ بين الجانبين على دجلة جسران من سفن، ويكون من باب خراسان إلى أن يبلغ باب الياسرية، وذلك عرض الجانبين جميعاً نحو خمسة أميال، وأعمر بقعة منها الكرخ، وبها اليسار ومعظم التجارة”.
“وأمَّا الأشجار والأنهار التي في الجانب الشرقي ودار الخلافة؛ فإنَّها من ماء النهروان وتامَرَّا وليس يرتفع إليها من ماء دجلة إلا شيء يسير يقصر عن العمارة وينضح بالدواليب”.
“وأمَّا الجانب الغربي؛ فإنه قد شُقَّ إليه من الفرات نهر عيسى لجنب قنطرة دِممَّا وتتحلَّب من هذا النهر صُبابات تجتمع فتصير نهراً يسمى الصَّراة ويتفجَّر منها أنهار، وبها عِمارات الجانب الغربي، ويقع ما يبقى من ماء الصراة الصغيرة والكبيرة في دجلة وينتهي آخر نهر عيسى إلى دجلة في جوف مدينة بغداد، وأمَّا نهر عيسى؛ فإنَّ السُّفُن تجري فيه من الفرات إلى أن يقع في دجلة، وأمَّا الصراة فإنَّ فيها حواجز تمنع من جري السفن فتنتهي السفن منها إلى قنطرة الصراة ثم يُحوَّل ما فيها ويُجاوز به ذلك الحاجز إلى سفن غيرها”.
ويضيف الإصطخري “وبين بغداد والكوفة سوادٌ مشتبك غير متميِّز تخترق إليه أنهار من الفرات فأولها ممَّا يلي بغداد نهر صرصر عليه مدينة صرصر صغيرة عامرة بالنخيل والزُّروع وسائر الثَّمار من بغداد على ثلاثة فراسخ..”. هذه الوصوفات المذكورة أعلاه، اقتبسها الرحَّالة الشهير محمد آل محمد الإدريسي القرطبي الحسني السبتي (1099-1166م) وذلك في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.
هو محمد بن أحمد المقدسي البشاري الذي عاش بين عامي 336 و 380 هجرية (947 و 991 م).
اشتهر كتابه الجغرافي الموسوعي “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، والذي تناول فيه تضاريس وسمات الأقاليم والمدن، وقد أفرد لمدينة بغداد حيزاً كبيراً من صفحات كتابه المذكور.
وقد قال المقدسي في وصفه لدار السَّلام: “بغداد هي مِصر الإسلام، وبها مدينة السَّلام، ولها الخصائص والظَّرافة، والقرائح واللَّطافة، هواءٌ رقيقٌ، وعلم دقيق، كُلُّ جيِّدٍ بها، وكلُّ حسن فيها، وكل حاذقٍ منها، وظلُّ ظرف لها، وكل قلب إليها، وكلُّ حربٍ عليها، وكلُّ ذبٍ عنها”.
المقدسي من بين الرحالة الذين قاموا بوصف مدينة بغداد وأضاف المقدسي في وصفه بغداد” هي أشهر من أن توصف، وأحسن من أن تُنعَت، وأعلى من أن تُمدَح، أحدثها أبو العباس السَّفاح ثم بنى المنصور بها مدينة السلام وزاد فيها الخُلَفاء من بعده..”.
“.. فبناها أربع قطع، مدينة السَّلام، وبادُوريا، والرُّصافة، وموضع دار الخليفة اليوم،وكانت أحسن شيء للمسلمين وأجلَّ بلد، وفوق ما وصفناه، حتى ضعُفَ أمر الخُلفاء، فاختلَّت وخفَّ أهلها، فأمَّا المدينة فخَرَاب..”.
وصف الرحالة ابن جبير لمدينة بغداد :-
هو محمد بن أحمد بن جُبَيْر، أبو الحسين الكِنانيُّ البَلَنْسِيُّ الشَّاطِبِيُّ، وُلِد الرحالة الأديب ابن جبير في بَلَنْسِيَة الأندلسية، سنة 540هـ (1145 م).
قام بثلاث رحلات إلى المشرق، وكانت زيارته لبغداد ضمن رحلته الأولى التي قادته للديار المقدسة أيضاً.
وفي وصفه لدار السلام، قال ابن جبير : ” هي كما ذكرناه جانبان: شرقيٌ وغربيٌّ، ودجلة بينهما، فأمَّا الجانب الغربي فقد عمَّه الخراب واستولى عليه، وكان معموراً أولاً، وعمارة الجانب الشَّرقي مُحْدَثَة، لكنَّه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلَّةٍ منها مدينة مستقلة، وفي كلِّ واحدةٍ منها الحمَّامان والثلاثة والثمانية منها بجوامع يُصلَّى فيها الجُمُعة، فأكبرها القُرَيَّة، وهي التي نزلنا فيها بربَض منها يُعرَف بالمربَّعة على شطِّ دجلة بمقربة من الجِسْر، فحملتْه دجلة بمدِّها السيلي، فعاد النَّاس يعبرون بالزوراق”.
وأضاف” والزوارق فيها لا تُحصى كثرةً، فالنَّاس ليلاً ونهاراً من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالاً ونساءً، والعادة أن يكون لها جسران: أحدهما مما يقرب من دُور الخليفة، والآخر فوقه لكثرة النَّاس، والعبور في الزَّوارق لا ينقطع منها”.
وصف الرحالة لمدينة بغداد منحنا صورة ممتازة عن فتراتها الزمنية المختلفة “وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، ويتفقَّده الأطباء كلَّ يوم إثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتِّبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قَوَمَة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصرٌ كبيرٌ فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل إليه من دجلة”.
ويزيد ابن جبير في وصفه المدينة ومرافقها ” وأمَّا حمَّاماتها؛ فلا تُحصى عدةً، ذكر لنا أحد الأشياخ أنَّها بين الشرقية والعربية نحو ألفي حمَّام، وأكثرها مطلية بالقار مسطَّحة به، فيخيَّل للنَّاظِر أنه رُخام أسود صقيل، وحمَّامات هذه الجهات أكثرها على هذه الصِّفة لكثرة القار عندهم، لأن شأنه عجيب، يُجلَبُ من عين بين البصرة والكُوفة، وقد أنْبَطَ الله ماء هذه العين ليتولَّد منه القار، فهو يصير في جوانبها كالصِّلصال، فيُجرَف ويُجلَبُ وقد انعقَد، فسبحان الله خالق ما يشاء، لا إله سواه”.
“وأمَّا المساجد بالشرقية والغربية؛ فلا يأخذها التقدير، فضلاً عن الإحصاء، والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلَّا وهي يقصُر القصرُ البديع عنها، وأعظمها وأشهرها النظامية، وهي التي ابتناها نظام المُلْك.. ولهذا البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرفٌ عظيمٌ وفخرٌ مخلَّد، فرحم الله واضعها الأول ورحِمَ من تبِع ذلك السَّنَن الصَّالِح”.
مدينة بغداد عند ياقوت الحموي:-
ياقوت الحموي الأديب والجغرافي الرومي الأصل المولود عام 574 هـ/ 1178 م، وهو صاحب معجميّ “البلدان” و”الأدباء” الشهيرين.
قال ياقوت – وهو يعتبر من الرحالة – عن مدينة بغداد في أول كلمات تعريفه للمدينة :” أُم الدُّنيا وسيدُة البلاد”.
وقد أورد ياقوت في “معجم البلدان” معلومات تفيدنا بشأن بدايات إنشاء المدينة، قائلاً: ” وقالوا: فأنفق المنصور على عِمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: إنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذَّهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فَرَغَ من بنائها أربعة الآف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصُّنَّاع كان يعمل في كل يومٍ بقيراط إلى خمس حبَّات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم والحَمَل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلاً بدرهم”.
“كان بين كلِّ بابٍ من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كلِّ سافٍ من أسواف البناء مائة ألف لبنة وإثنان وستون ألف لبِنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشَّرَوي قال: هدمنا من السُّور الذي يلي باب المحوِّل قطعةً فوجدنا فيها لبِنَة مكتوباً عليها بمغْرَة: وزنها مائة وسبعة عشر رطلاً، فوَزنَّاها فوجدناها كذلك”.
وفي مدح بغداد؛ قال بعض الفضلاء: “بغداد جنَّة الأرض ومدينة السَّلام وقُبَّة الإسلام ومجمع الرَّافدين وغرَّة البلاد، وعين العراق، ودار الخلافة، ومجمع المحاسِن والطيبات، ومعدَن الظَّرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات من كُلِّ فنّ، وآحاد الدَّهر في كل نوع”.
وصف الرحالة لمدينة بغداد لم ينحصر بما كتبوه من ملاحظات مباشرة فحسب، بل إن ياقوت قام بجمع شهادات غيره السابقين والمعاصرين له.
النويري اقتبس وصف الحموي لمدينة بغداد
وقد نقل الحموي عن بعض الأعلام وصفها لدار السَّلام على النحو التالي:
هو الرحالة والمؤرخ والقاضي الأمازيغي محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف باسم ابن بطوطة ، لُقِّب بأمير الرحالة المسلمين من قِبل جمعية كمبردج، وُلِدَ في طنجة سنة 703هـ (1304 م)، ونشأ فيها.
نشأته وبدء رحلته التي استغرقت نحو ثلاثين عاماً جاءت بعد عقود من سقوط مدينة بغداد على يد المغول، لذا فإن وصفه لها يأتي باعتبارها أطلالاً مقارنة بما كانت عليه قبل هذا الاجتياح المهول القادم من الشَّرق.
وقال ابن بطوطة في وصفه للعاصمة العباسية التي تداعت أركانها سنة 656 هجرية (1256 م) : “مدينة دار السَّلام، ذات القدر الشَّريف، والفضل المُنيف، مثوى الخُلفاء، ومقر العلماء، وقال أبو الحسن بن جبير رضي الله عنه: وهذه المدينة العتيقة وإن لم تَزَل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية، فقد ذَهَبَ رسمها، ولم يبقَ إلَّا اسمها”.
وصف الرحالة لمدينة بغداد أظهر إجلالاً من قبلهم لها وأضاف ابن بطوطة “وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدَّارِس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حُسن فيها يستوقِف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنَّظَر، إلَّا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تظمأ ونتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحُسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ”.
ويصف ابن بطوطة الجانب الشرقي من مدينة بغداد قائلاً: “وهذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة الأسواق عظيمة الترتيب، وأعظم أسواقها سوق يُعرَف بسوق الثلاثاء، كل صناعة فيها على حِدى وفي وسط هذا السوق، المدرسة النِّظامية العجيبة التي صارت الأمثال تُضرَبُ بحُسنها، وفي آخرها المدرسة المستنصرية ونسبتها إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر ابن أمير المؤمنين النَّاصر وبها المذاهب الأربعة لكل مذهبٍ إيوان فيه المسجد، وموضِع التدريس، وجلوس المدرس في قبة من خشب صغيرة على كرسي عليه البُسُط..”.
ويزيد “وهذه الجهة الشَّرقية من بغداد ليس بها فواكه، وإنَّما تُجلَب إليها من الجهة الغربية لأن فيها البساتين والحدائق،.. وبقرب الرُّصافة قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وعليه قُبَّة عظيمة وزاوية فيها الطَّعام للوارد والصَّادِر، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يُطعم الطَّعام فيها ما عدا هذه الزاوية”.
وصف الرحالة لمدينة بغداد لم يقتصر على مشاهداتهم المباشرة، بل أيضاً من خلال نقولاتهم عن الآخرين، فقد نقل ابن بطوطة عن ابن جزي قوله : وكأن أبا تمام اطَّلَعَ على ما آل إليه أمرها حين قال أبو تمامواصفاً بغداد:
محاصرة المغول للمدينة قبل اجتياحها الخلاصة:-
لا يمكن لأي امرئ حصر ما ذكرته الكتب والمصادر والدلائل التاريخية من فضائل وشمائل لمدينة بغداد في فترتها العباسية على وجه التحديد، وعبر مسيرتها الطويلة عموماً، لكن ما تم جمعه في هذه المقالة، قد يمنحنا صورةً معقولةً حول المكانة التي احتلتها هذه المدينة عبر التاريخ.
وصف الرحالة لمدينة بغداد يعتبر أمراً في غاية الأهمية، لأن كل منهم قد قام بتدوين ملاحظاته ومشاهداته عن المدينة في فترات مختلفة شهدت صعود نجمها واستقرارها قبل أن تتهاوى أمام المد المغولي.
وصف الرحالة لمدينة بغداد :-
ربما لم تنل مدينةً في التاريخ العربي الإسلامي ما يضاهي ما حظيت به مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسية من ذكر و وصف لدى الرحالة العرب والمسلمين، فهي التي جمعت المكانة السياسية والعلمية والثقافية والحضارية لقرونٍ طويلة، وكان لعلمائها وأدبائها وأعلامها اليد الطولى في تشكيل الوعي والثقافة العربية الإسلامية عبر مختلف العصور وصولاً إلى اليوم.
لكنَّ المدينة التي احتشد فيها كبار الأطباء والفلكيين والعلماء، والفقهاء، والمتكلمين، والنحاة، والشعراء، والنجباء؛ هي ذاتها التي فقدت مكانتها ومساهمتها الحضارية في أعقاب اجتياحها من قِبَل المغول وذلك في سنة 656 هجرية (1258 م).
التاريخ المذكور أعلاه؛ يعتبره كثيرون بمثابة علامة فارقة وفاصلة في التاريخ المنطقة، إذ تبعه انحسار المساهمات العلمية والثقافية العربية والإسلامية بشكل كبير، ليس بفعل حرق المحتل الجديد لمكتبة بيت الحكمة أو قذفه كتبها ومقتنياتها في نهر دجلة فحسب؛ بل لأن هذا التاريخ كان بمثابة توطئة لدخول أمم أخرى سيطرت على المشهد السياسي، حيث أولى المغول ومن بعدهم المماليك والأتراك للبعد العسكري أولوية على حساب العناية بالعلوم والثقافة، وهو أمرٌ ما تزال منطقتنا تدفع ثمنه إلى اليوم.
صحيحٌ أن عاصمة الخلافة العباسية شهدت منعرجات كبيرة، وذلك منذ تأسيسها على يد أبي جعفر المنصور مروراً بوصولها لذروة تألقها في عهد المأمون، وليس انتهاءً بسيطرة البويهيين والسلاجقة عليها؛ غير أنها ظلت طيلة الفترة المذكورة، مركزاً للاشعاع العلمي والفكري ولو بشكل متقلِّب.
فبغداد العباسية كانت مقراً للمدارس الفقهية والفكرية والكلامية والنحوية (وإن كانت الغلبة للبصرة والكوفة)، كما كانت ملجأ للعلماء الذين لم يعثروا في بلادهم الأصلية على ما يعينهم على حفز طاقاتهم وقدراتهم، وقد استفادت هذه المدينة من سياسة الانفتاح التي انتهجها العباسيون تجاه الأمم الأخرى كالفارسية واليونانية والهندية، سواء أكان ذلك من خلال التقارب الجغرافي أو عبر قنوات الترجمة والمراسلات والسفارات.
وصف الرحالة لمدينة بغداد :-
وقد تناول الرحالة والجغرافيون والأدباء العرب والمسلمين فضائل مدينة بغداد وذلك خلال معيشتهم فيها أو حينما عبروها، وقد حَمَلت وصوفاتهم إجلالاً وتقديراً لمكانتها التي لم تكن تدانيها أيٍّ من مدن المشرق والمغرب الإسلامي وذلك لغاية منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.
وسنتناول هذه الوصوفات وذلك تبعاً للحقبة الزمنية التي عاشت فيها الشخصيات الجغرافية الرحَّالة التي تحدثت عن دار السلام، أي بغداد.
وصف مدينة بغداد لدى الإصطخري:-مدينة السَّلام وهي المُسمَّاة بغداذ، وبغداذ اسم موضع كانت في تلك البُقعة من قبل زعموا أنَّهُ كانَ موضعاً للأوثان والأصنام في الدَّهر القديم، وهي أرض بابل، وبابل أقدم هذه المواضِع كلَّها.. وكانت الملوك الأوائل تنزِل بها من قَبْل، ويُقال: إنَّ منها تفرَّق ولد نوح عليه السَّلام..ونهر دجلة يجري وسط هذه المدينة، وهو يُقبل من ناحية جبل الجزيرة وأرمينية، وعِمارة بغداد المُسمَّاة مدينة السَّلام في الجانب الغربي من دجلة بناها المنصور، وهي مدينة حصينة لها سوران، وبين السُّوريّن فصيل، وخارج السُّور خندق قد بُني حافَّتاهُ بالجصّ والآجر، ولهذه المدينة أربعة أبواب، على كلِّ بابٍ منها قُبَّة خضراء، قد بُنِيَ حولَ كُل قُبَّة مجلس قد رُفِعَ بالأساطين من ساجٍ مُطِلٍّ على بغداد، فأحد أبوابها يُسمَّى باب خُراسان والثاني باب البصرة والثالث باب الكوفة والرابع باب الشَّأم، وفي وسط المدينة قصر لأبي جعفر يُسمَّى باب الذَّهب، ومن كُلِّ بابٍ من أبواب المدينة عليه شارعٌ كبيرٌ واسعٌ، قد عُقِدَت على الشَّوارع طيقان بالجصِّ والآجر، وعلى السُّور الخارج منها أربعة أبواب حديد، فمَن دَخَلَ الباب الأول يُفضي إلى فصيل كما يدورُ حول المدينة، ثُمَّ يصيرُ إلى بابٍ حديدٍ آخر عليه القُبَّة، وفي هذه المدينة مسجدٌ جامِعٌ مبنيُّ بالجصّ والآجر مرفوعٌ بأساطين السَّاج ومسقَّف بخشب السَّاج مزوَّق باللازورد.
الجغرافي والرحالة ابن رسته الأصفهاني المتوفى سنة 912 م.
هو إبراهيم بن محمد، أبو القاسم الإِصْطَخْرِيّ الكرخي، جغرافي، رحالة ، يعود أصله إلى إصطخر الفارسية التي نشأ بها، وقد نبغ سنة 340هـ (952 م).
صاحب كتابي “مسالك الممالك” و “صور الأقاليم” وقد زوَّد مؤلَّفه الثاني بعددٍ من الخرائط التي تغطي المواضِع الجغرافية التي ارتادها.
والإصطخري يُنسب أيضاً إلى الكرخ الواقعة في مدينة بغداد ، ذلك لأنَّه أمضى فيها الشطر الأكبر من حياته، لذا فإن شهادته عن دار السلام في القرن العاشر الميلادي؛ تكتسب أهمية خاصَّة.
وقد وصف الإصطخري بدايات تأسيس بغداد قائلاً:” وأمَّا بغداد؛ فإنها مدينة مُحدَثة في الإسلام لم تكُن بها عِمارة، فابتنى المنصور المدينة في الجانب الغربي وجعل حواليها قطائع لحاشيته ومواليه وأتباعه مثل قطيعة الرَّبيع والحربيَّة وغيرهما، ثمَّ عُمِّرَت، فلمَّا كان في أيام المهدي؛ جعل معسكره في الجانب الشَّرقي فسُمِّيَ عسكر المهدي، ثمَّ عُمِّرَت بالناس والبنيان وانتقلت الخلافة إلى الجانب الشرقي..”.
الإصطخري يعتبر من أوائل الرحالة المسلمين ويزيد” وببغداد مساجد جوامع في ثلاثة مواضع في مدينة المنصورة وفي الرصافة وفي دار الخِلافة، وتتصِل العِمارة والبنيان بكلواذي وبها مسجد جامع فلو عُدَّ في جُملة بغداد لجاز”.
“وقد عُقِدَ بين الجانبين على دجلة جسران من سفن، ويكون من باب خراسان إلى أن يبلغ باب الياسرية، وذلك عرض الجانبين جميعاً نحو خمسة أميال، وأعمر بقعة منها الكرخ، وبها اليسار ومعظم التجارة”.
“وأمَّا الأشجار والأنهار التي في الجانب الشرقي ودار الخلافة؛ فإنَّها من ماء النهروان وتامَرَّا وليس يرتفع إليها من ماء دجلة إلا شيء يسير يقصر عن العمارة وينضح بالدواليب”.
“وأمَّا الجانب الغربي؛ فإنه قد شُقَّ إليه من الفرات نهر عيسى لجنب قنطرة دِممَّا وتتحلَّب من هذا النهر صُبابات تجتمع فتصير نهراً يسمى الصَّراة ويتفجَّر منها أنهار، وبها عِمارات الجانب الغربي، ويقع ما يبقى من ماء الصراة الصغيرة والكبيرة في دجلة وينتهي آخر نهر عيسى إلى دجلة في جوف مدينة بغداد، وأمَّا نهر عيسى؛ فإنَّ السُّفُن تجري فيه من الفرات إلى أن يقع في دجلة، وأمَّا الصراة فإنَّ فيها حواجز تمنع من جري السفن فتنتهي السفن منها إلى قنطرة الصراة ثم يُحوَّل ما فيها ويُجاوز به ذلك الحاجز إلى سفن غيرها”.
ويضيف الإصطخري “وبين بغداد والكوفة سوادٌ مشتبك غير متميِّز تخترق إليه أنهار من الفرات فأولها ممَّا يلي بغداد نهر صرصر عليه مدينة صرصر صغيرة عامرة بالنخيل والزُّروع وسائر الثَّمار من بغداد على ثلاثة فراسخ..”. هذه الوصوفات المذكورة أعلاه، اقتبسها الرحَّالة الشهير محمد آل محمد الإدريسي القرطبي الحسني السبتي (1099-1166م) وذلك في كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.
This image has been resized. Click this bar to view the full image. The original image is sized 1024x757. |
المقدسي:-
وكان ببغداد أنهارٌ كثيرة.. وكان منها مرافِق للنَّاسِ لسقي البساتينِ ولشُرْبِ الشَّفة في الأطراف البعيدة من دِجْلَة، فاندَفَنَت مجاريها، وعفت رسومها، ونشأ قرنٌ بعدَ قرْنٍ من النَّاس لا يعرفونها، واضطُرَّ الضُعَفاءُ إلى أن يشربوا مياه الآبار الثقيلة، أو يتكفَّلوا حمل الماء من دِجْلَة في المسافةِ الطويلةِ، فأمرَ (عضدُ الدَّولة) بحفرِ عمدانها ورواضعها، وقد كانت على عمدانها الكِبار قناطِرَ قد تهدَّمَت وأُهْمِلَ أمرَها، وقلَّ الفِكْرُ فيها، فربما انقطعت بها السُّبُل، وربما عمَّرتها الرَّعيَّة عمارة ضعيفة على حسب أحوالِهم، فلم تكُن تخلو من أن تجتازَ عليها البهائم والنِّساء والأطفال والضُعَفَاء فيسقطون، فبُنِيَت كُلّها جديدة وثيقة، وعُمِلَت عمَلَاً مُحكَماً، وكذلكَ جرى أمرُ الجسْرِ ببغداد، فإنه كان لا يجتاز عليه إلا المُخاطِرِ بنفسهِ، لا سيَّمَا الرَّاكِبُ لشدَّةِ ضيقه وضعفهِ، وتزاحَمَ الناس عليه، فاختيرَت له السُّفُن الكِبار المُتْقَنَة، وعرِّض حتَّى صارَ كالشَّوارِع الفسيحة، وحُصِّنَ بالدرابزينات، ووُكِّلَ بهِ الحَفَظَة والحُراس.
— الفيلسوف مسكويه (320-421 هـ)، يصف إصلاحات عضد الدولة على نهر دجلة.
هو محمد بن أحمد المقدسي البشاري الذي عاش بين عامي 336 و 380 هجرية (947 و 991 م).
اشتهر كتابه الجغرافي الموسوعي “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”، والذي تناول فيه تضاريس وسمات الأقاليم والمدن، وقد أفرد لمدينة بغداد حيزاً كبيراً من صفحات كتابه المذكور.
وقد قال المقدسي في وصفه لدار السَّلام: “بغداد هي مِصر الإسلام، وبها مدينة السَّلام، ولها الخصائص والظَّرافة، والقرائح واللَّطافة، هواءٌ رقيقٌ، وعلم دقيق، كُلُّ جيِّدٍ بها، وكلُّ حسن فيها، وكل حاذقٍ منها، وظلُّ ظرف لها، وكل قلب إليها، وكلُّ حربٍ عليها، وكلُّ ذبٍ عنها”.
This image has been resized. Click this bar to view the full image. The original image is sized 735x1024. |
المقدسي من بين الرحالة الذين قاموا بوصف مدينة بغداد وأضاف المقدسي في وصفه بغداد” هي أشهر من أن توصف، وأحسن من أن تُنعَت، وأعلى من أن تُمدَح، أحدثها أبو العباس السَّفاح ثم بنى المنصور بها مدينة السلام وزاد فيها الخُلَفاء من بعده..”.
“.. فبناها أربع قطع، مدينة السَّلام، وبادُوريا، والرُّصافة، وموضع دار الخليفة اليوم،وكانت أحسن شيء للمسلمين وأجلَّ بلد، وفوق ما وصفناه، حتى ضعُفَ أمر الخُلفاء، فاختلَّت وخفَّ أهلها، فأمَّا المدينة فخَرَاب..”.
وصف الرحالة ابن جبير لمدينة بغداد :-
هو محمد بن أحمد بن جُبَيْر، أبو الحسين الكِنانيُّ البَلَنْسِيُّ الشَّاطِبِيُّ، وُلِد الرحالة الأديب ابن جبير في بَلَنْسِيَة الأندلسية، سنة 540هـ (1145 م).
قام بثلاث رحلات إلى المشرق، وكانت زيارته لبغداد ضمن رحلته الأولى التي قادته للديار المقدسة أيضاً.
وفي وصفه لدار السلام، قال ابن جبير : ” هي كما ذكرناه جانبان: شرقيٌ وغربيٌّ، ودجلة بينهما، فأمَّا الجانب الغربي فقد عمَّه الخراب واستولى عليه، وكان معموراً أولاً، وعمارة الجانب الشَّرقي مُحْدَثَة، لكنَّه مع استيلاء الخراب عليه يحتوي على سبع عشرة محلة، كل محلَّةٍ منها مدينة مستقلة، وفي كلِّ واحدةٍ منها الحمَّامان والثلاثة والثمانية منها بجوامع يُصلَّى فيها الجُمُعة، فأكبرها القُرَيَّة، وهي التي نزلنا فيها بربَض منها يُعرَف بالمربَّعة على شطِّ دجلة بمقربة من الجِسْر، فحملتْه دجلة بمدِّها السيلي، فعاد النَّاس يعبرون بالزوراق”.
وأضاف” والزوارق فيها لا تُحصى كثرةً، فالنَّاس ليلاً ونهاراً من تمادي العبور فيها في نزهة متصلة رجالاً ونساءً، والعادة أن يكون لها جسران: أحدهما مما يقرب من دُور الخليفة، والآخر فوقه لكثرة النَّاس، والعبور في الزَّوارق لا ينقطع منها”.
وصف الرحالة لمدينة بغداد منحنا صورة ممتازة عن فتراتها الزمنية المختلفة “وبين الشارع ومحلة باب البصرة سوق المارستان، وهي مدينة صغيرة، فيها المارستان الشهير ببغداد، وهو على دجلة، ويتفقَّده الأطباء كلَّ يوم إثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتِّبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قَوَمَة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصرٌ كبيرٌ فيه المقاصير والبيوت وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل إليه من دجلة”.
ويزيد ابن جبير في وصفه المدينة ومرافقها ” وأمَّا حمَّاماتها؛ فلا تُحصى عدةً، ذكر لنا أحد الأشياخ أنَّها بين الشرقية والعربية نحو ألفي حمَّام، وأكثرها مطلية بالقار مسطَّحة به، فيخيَّل للنَّاظِر أنه رُخام أسود صقيل، وحمَّامات هذه الجهات أكثرها على هذه الصِّفة لكثرة القار عندهم، لأن شأنه عجيب، يُجلَبُ من عين بين البصرة والكُوفة، وقد أنْبَطَ الله ماء هذه العين ليتولَّد منه القار، فهو يصير في جوانبها كالصِّلصال، فيُجرَف ويُجلَبُ وقد انعقَد، فسبحان الله خالق ما يشاء، لا إله سواه”.
“وأمَّا المساجد بالشرقية والغربية؛ فلا يأخذها التقدير، فضلاً عن الإحصاء، والمدارس بها نحو الثلاثين، وهي كلها بالشرقية، وما منها مدرسة إلَّا وهي يقصُر القصرُ البديع عنها، وأعظمها وأشهرها النظامية، وهي التي ابتناها نظام المُلْك.. ولهذا البلاد في أمر هذه المدارس والمارستانات شرفٌ عظيمٌ وفخرٌ مخلَّد، فرحم الله واضعها الأول ورحِمَ من تبِع ذلك السَّنَن الصَّالِح”.
مدينة بغداد عند ياقوت الحموي:-
ياقوت الحموي الأديب والجغرافي الرومي الأصل المولود عام 574 هـ/ 1178 م، وهو صاحب معجميّ “البلدان” و”الأدباء” الشهيرين.
قال ياقوت – وهو يعتبر من الرحالة – عن مدينة بغداد في أول كلمات تعريفه للمدينة :” أُم الدُّنيا وسيدُة البلاد”.
وقد أورد ياقوت في “معجم البلدان” معلومات تفيدنا بشأن بدايات إنشاء المدينة، قائلاً: ” وقالوا: فأنفق المنصور على عِمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: إنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذَّهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فَرَغَ من بنائها أربعة الآف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم، وذاك أن الأستاذ من الصُّنَّاع كان يعمل في كل يومٍ بقيراط إلى خمس حبَّات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات، وكان الكبش بدرهم والحَمَل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلاً بدرهم”.
“كان بين كلِّ بابٍ من أبواب المدينة والباب الآخر ميل، وفي كلِّ سافٍ من أسواف البناء مائة ألف لبنة وإثنان وستون ألف لبِنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشَّرَوي قال: هدمنا من السُّور الذي يلي باب المحوِّل قطعةً فوجدنا فيها لبِنَة مكتوباً عليها بمغْرَة: وزنها مائة وسبعة عشر رطلاً، فوَزنَّاها فوجدناها كذلك”.
وفي مدح بغداد؛ قال بعض الفضلاء: “بغداد جنَّة الأرض ومدينة السَّلام وقُبَّة الإسلام ومجمع الرَّافدين وغرَّة البلاد، وعين العراق، ودار الخلافة، ومجمع المحاسِن والطيبات، ومعدَن الظَّرائف واللطائف، وبها أرباب الغايات من كُلِّ فنّ، وآحاد الدَّهر في كل نوع”.
وصف الرحالة لمدينة بغداد لم ينحصر بما كتبوه من ملاحظات مباشرة فحسب، بل إن ياقوت قام بجمع شهادات غيره السابقين والمعاصرين له.
النويري اقتبس وصف الحموي لمدينة بغداد
وقد نقل الحموي عن بعض الأعلام وصفها لدار السَّلام على النحو التالي:
- كان أبو إسحاق الزَّجاج النحوي الشهير يقول: بغداد حاضرةُ الدُّنيا وما عداها بادية.
- كان أبو الفرج الببغاء الشاعر الشَّهير يقول عنها: هي مدينة السَّلام بل مدينة الإسلام، فإنَّ الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عشَّشَتا وفرَّختا وضربتا بعروقهما وبسقَتا بفروعهما، وإن هواءها أغذى من كُلِّ هواء، وماءها أعذب من كُلِّ ماء، وإنَّ نسيمها أرَقُ من كُلِّ نسيم، وهي من الإقليم الاعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة، ولم تزل بغداد مَوْطِن الأكاسرة في سالف الأزمان ومنزل الخلفاء في دولة الإسلام.
- وقال أَبو يَعلْى محمد بن الهبَّارية: سمعتُ الشيخ الزَّاهِد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز أبادي ، يقول: مَنْ دَخَلَ بغداد وهو ذو عقلٍ صحيحٍ وطبْعٍ مُعتدِل مات بها أو بحسرتها.
سافِرْتُ أَبغي لبغدادٍ وساكِنَها.. مثلاً، قد اخترْتُ شيئاً دونه الياسُ
هيهاتَ بغدادُ، والدُّنيا بأَجمعها.. عندي، وسكانُ بغدادٍ هيَ النَّاسُ
- قال يونس بن عبد الأعلى: قال لي محمد بن إدريس الشَّافعي: أيا يونس دخَلتَ بغداد؟، فقلت لا، فقال: أيا يونس ما رأيت الدُّنيا ولا النَّاس.
- كان ابن العميد الكاتب والأديب الشهير إذا طرأ عليه أحدٌ من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله؛ سأله عن بغداد، فإن فطِنَ بخواصِّها وتنبَّه على محاسِنها وأثنى عليها؛ جعل ذلك مقدِّمة فضله وعنوان عقله، ثم سأله عن الجاحِظ ، فإن وجد أثراً لمطالعة كُتُبِه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله؛ قضى له بأنَّه غُرَّة شادخة في أهل العلم والآداب، وإن وجده ذامَّاً لبغداد غُفْلاً عمَّا يجب أن يكون موسوماً به من الانتساب إلى المعارف التي يختصَّ بها الجاحِظ؛ لم ينفعه بعد ذلك شيءٌ من المحاسن، ولمَّا رجِعَ الصَّاحب بت عباد من بغداد؛ سأله ابن العميد عنها، فقال: بغداد في البلاد كالأُستاذ في العباد، فجعلها مثلاً في الغاية في الفضل.
- وقدِمَ عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس إلى بغداد؛ فرأى كثرة النَّاس بها، فقال: ” ما مررتُ بطريقٍ من طُرُقِ هذه المدينة إلَّا ظَنَنْتُ أنَّ النَّاسَ قد نُودِيَ فيهم؛ ووُجد على بعض الأميال بطريق مكة المكرمة مكتوباً:
أيا بغداد يا أسَفي عليكِ!.. متى يُقضى الرجوع لنا إليكِ؟
قنِعنا سالمين بكلِّ خيرٍ،.. وينعُمُ عيشُنا في جانبيكِ
- وَوَجِدَ على حائط بجزيرة قُبرُص مكتوباً:
وصف مدينة بغداد لدى ابن بطوطة:-فهل نحو بغداد مزارٌ، فيلتقي.. مَشُوقٌ ويحظى بالزِّيارة زائرُ
إلى اللهِ أشكو، لا إلى النَّاس، إنهُ.. على كشف ما أَلقى من الهمِّ قادرُ
هو الرحالة والمؤرخ والقاضي الأمازيغي محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المعروف باسم ابن بطوطة ، لُقِّب بأمير الرحالة المسلمين من قِبل جمعية كمبردج، وُلِدَ في طنجة سنة 703هـ (1304 م)، ونشأ فيها.
نشأته وبدء رحلته التي استغرقت نحو ثلاثين عاماً جاءت بعد عقود من سقوط مدينة بغداد على يد المغول، لذا فإن وصفه لها يأتي باعتبارها أطلالاً مقارنة بما كانت عليه قبل هذا الاجتياح المهول القادم من الشَّرق.
وقال ابن بطوطة في وصفه للعاصمة العباسية التي تداعت أركانها سنة 656 هجرية (1256 م) : “مدينة دار السَّلام، ذات القدر الشَّريف، والفضل المُنيف، مثوى الخُلفاء، ومقر العلماء، وقال أبو الحسن بن جبير رضي الله عنه: وهذه المدينة العتيقة وإن لم تَزَل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية، فقد ذَهَبَ رسمها، ولم يبقَ إلَّا اسمها”.
وصف الرحالة لمدينة بغداد أظهر إجلالاً من قبلهم لها وأضاف ابن بطوطة “وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدَّارِس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حُسن فيها يستوقِف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنَّظَر، إلَّا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تظمأ ونتطلع منها في مرآة صقيلة لا تصدأ، والحُسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ”.
ويصف ابن بطوطة الجانب الشرقي من مدينة بغداد قائلاً: “وهذه الجهة الشرقية من بغداد حافلة الأسواق عظيمة الترتيب، وأعظم أسواقها سوق يُعرَف بسوق الثلاثاء، كل صناعة فيها على حِدى وفي وسط هذا السوق، المدرسة النِّظامية العجيبة التي صارت الأمثال تُضرَبُ بحُسنها، وفي آخرها المدرسة المستنصرية ونسبتها إلى أمير المؤمنين المستنصر بالله أبي جعفر ابن أمير المؤمنين النَّاصر وبها المذاهب الأربعة لكل مذهبٍ إيوان فيه المسجد، وموضِع التدريس، وجلوس المدرس في قبة من خشب صغيرة على كرسي عليه البُسُط..”.
ويزيد “وهذه الجهة الشَّرقية من بغداد ليس بها فواكه، وإنَّما تُجلَب إليها من الجهة الغربية لأن فيها البساتين والحدائق،.. وبقرب الرُّصافة قبر الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وعليه قُبَّة عظيمة وزاوية فيها الطَّعام للوارد والصَّادِر، وليس بمدينة بغداد اليوم زاوية يُطعم الطَّعام فيها ما عدا هذه الزاوية”.
وصف الرحالة لمدينة بغداد لم يقتصر على مشاهداتهم المباشرة، بل أيضاً من خلال نقولاتهم عن الآخرين، فقد نقل ابن بطوطة عن ابن جزي قوله : وكأن أبا تمام اطَّلَعَ على ما آل إليه أمرها حين قال أبو تمامواصفاً بغداد:
لقد أقام على بغداد ناعيها.. فليبكها لخرابِ الدَّهر باكيها
كانت على مائها والحربُ موقدةٌ.. والنَّارُ تطفأ حُسناً في نواحيها
تُرجى لها عودةٌ في الدَّهر صالحةٌ.. فالآن أضمر منها اليأسَ راجيها
مثل العجوز التي ولَّت شبيبتُها.. وبان عنها جمالُ كان يُحظيها
محاصرة المغول للمدينة قبل اجتياحها الخلاصة:-
لا يمكن لأي امرئ حصر ما ذكرته الكتب والمصادر والدلائل التاريخية من فضائل وشمائل لمدينة بغداد في فترتها العباسية على وجه التحديد، وعبر مسيرتها الطويلة عموماً، لكن ما تم جمعه في هذه المقالة، قد يمنحنا صورةً معقولةً حول المكانة التي احتلتها هذه المدينة عبر التاريخ.
وصف الرحالة لمدينة بغداد يعتبر أمراً في غاية الأهمية، لأن كل منهم قد قام بتدوين ملاحظاته ومشاهداته عن المدينة في فترات مختلفة شهدت صعود نجمها واستقرارها قبل أن تتهاوى أمام المد المغولي.