موال زهيري بطور الصبي
مديح الصادق
دنياك هالفاينة لا أقبلها ولا أحبها
من حيث لَن الظلم والجور لا ح بها
أم العَلا دنِّكت { للنذل } والنذل لا حبها
صبَّح { غضنفر } وراسه للثريا وصل
ولابس من { الماهود } ستة وسبعة وصل
والله لو كطعوني بشفرات الهنادي وصل
ما أدنِّك على أيد { النذل } لا والله ولا أحبها
قصة هذا الموال - كما رواها والدي رحمه الله - إذ كان يغنِّيه بصوته العذب صباح مساء , ما أكَّد لي أنه متأثر بمغزاه العميق , ويسعى إلى إيصاله للمحيطين به : إبَّان الاحتلال العثماني للعراق سعى المحتلون إلى فرض نظام الإقطاع على أغلب المساحات الزراعية , قاصدين السيطرة التامة على نظام الضرائب بواسطة الإقطاعيين من جهة , والحد من كل نشاط وطني أو فكري من شأنه توعية الناس على مساوئ الاستعمار وأعوانه , وقد اختاروا لهذه المهام بعض شيوخ العشائر القساة على أبناء جلدتهم , وزودوهم بكل الصلاحيات التي جرَّدت الفلاحين من كل الصفات الإنسانية , دون مبالاة لأدنى معايير الأخلاق , والدين
أما { شرهان المختار } فقد كان شيخ قبيلة , محبوبا لدى الجميع , يصلح ذات البين , يعدل عند الحكم , يتفقد الذين أوصى بهم رب العباد , يواسي من تبعث في نفسه الآمال المواساة , يوصي دائما بالحكمة , والرأي السديد , يغض الطرف عن الجارات , لا يأكل إلا
عند تشابك الأكف , مطابخه سود القدور , والمواقد عنده بلا رماد , يقارع الاحتلال والمحتلين , ويكره الخائنين
أثار الحسد ذلك , والغيرة لدى ضعاف النفوس من أبناء القبيلة بدفع , وتشجيع من الحكام الأتراك الذين لا يخدمهم شيخ بهذه المواصفات فخططوا لتدبير { فخ } للتخلص منه بلا رجعة , وتنصيب بديل يلبي ما وجهوا البلاد إليه من ذل , واستعباد , وجهل
وقع اختيارهم على أحد أتباعه المقربين إليه , وهو ابن عم له , ويحظى عنده بمنزلة فريدة , فهو مطرب ذو صوت ريفي شجي , سريع البديهة , حاضر النكته , فصيح اللسان وذلك اكتسبه من ملازمته دوما لمجالس ابن عمه الشيخ { شرهان } وإصغائه لحكمته , والمجالس مدارس كما يُقال , الشيخ لم يرفض طلبا له قط
دبَّر { ماهود } المكيدة بكل تأن , وإتقان , إذ كرر كل يوم , وأثناء انعقاد المجلس في مضيف الشيخ { شرهان } كررطلبا بلهجة المزاح بأن يتنازل له الشيخ عن { زعامة القبيلة } ليوم واحد فقط , ولما كان صنف { الشراهين } طيبي القلوب , وسرعان ما يخدعون من قبل الخبثاء , فقد استجاب لطلب ابن عمه { اللئيم } , بل زاد في ذلك أن أعلن أمام القوم بأنه { أي الشيخ } خلال ذلك اليوم سيصبح واحدا من أتباع { ماهود } دون أن ينبئه العراف أن الماء يجري من تحته دون دراية منه , وأنه على نهايته باصمٌ بالأصابع العشرين
الخطوة الأولى قام { ماهود } باعتقال ابن عمه , وتوثيق يديه بالحبال , مجردا إياه من بدلته ذات القماش الفاخر المسمى الماهود } , وأشهر سيفه بوجهه طالبا منه بكل صلافة أن يُقبِّل كفَّيه وإلا فإن مصيرة سيكون قطع الرأس , أمهله يوما واحدا لتنفيذ الرغبة الشوهاء , وهو يعلم علم اليقين أن { شرهان } لن يحني القامة وإن كان الثمن الموت , وما عليه إلا أن يستعين بأشباهه الغادرين
لكمِّ الأفواه , وبث الرعب في صفوف القبيلة , والأعوان
حانت ساعة الصفر , تجمع القوم , وجوه كالحة , بعض أصحابها واقفون على الأبراج , ماسكين العصا من النصف , بانتظار لمن سترجح كفة الميزان , فيحلبون النياق بيسر , وهؤلاء لا موقف عندهم , ولا يستحقون الحياة , والبعض الآخر أعوان الباطل , الكارهين لكل مظهر من مظاهر الخير لإشباع أطماع وَعَدَهم بها الجاهل { ماهود } { وأغلبهم للحق كارهون
أما الباقون فهم قلة - كما تعلمون - وما من حيلة لنصرة الحق يملكون
جيء بالشيخ { شرهان } فكرر عليه الطلب الملعون , أنذره وأعاد على مسمع الجميع الإنذار : { قبِّل يدي وإلا فإن مصيرك الموت } لاذ الشيخ بالصمت قليلا , وضع السبابة بأذنه , لم يسبق له أن جرَّب الغناء , بطور { الصبِّي } أخرس الحضور , غنَّى الموال الزهيري الذي استشهدنا به أول المقال , حتى شطريه الأخيرين
والله لو كطعوني بشفرات الهنادي وصل
ما أدنك على أيد النذل , لا والله ولا أحبها
مع القفل الأخير تدحرج رأسه بين فخذيه ليترك درسا لكل شجاع آثر الموت على العيش بذلٍّ تحت ربقة العبودية للتافهين , وغدا موَّاله نشيدا , وشاهدا على الأثر الجليل
سيداتي , سادتي { لكل حديث ربَّاط } كما قلنا ولابد أن كلا منكم قد اهتدى إلى تحليله الخاص لتلك الحكاية الواقعة فعلا ,
وما قصدت أن البائعين الذمم , التابعين الشياطين , موجودون , في كل زمان , وكل مكان , بإمكانهم تغيير الأسامي , والهويات , حتى الوجوه , يبيعون الدم , والكرامة , وماء الوجه من أجل أن يرضى عنهم السلطان , ألا تبا لهؤلاء , واسودَّت فيهم الجباه
مديح الصادق
مديح الصادق
دنياك هالفاينة لا أقبلها ولا أحبها
من حيث لَن الظلم والجور لا ح بها
أم العَلا دنِّكت { للنذل } والنذل لا حبها
صبَّح { غضنفر } وراسه للثريا وصل
ولابس من { الماهود } ستة وسبعة وصل
والله لو كطعوني بشفرات الهنادي وصل
ما أدنِّك على أيد { النذل } لا والله ولا أحبها
قصة هذا الموال - كما رواها والدي رحمه الله - إذ كان يغنِّيه بصوته العذب صباح مساء , ما أكَّد لي أنه متأثر بمغزاه العميق , ويسعى إلى إيصاله للمحيطين به : إبَّان الاحتلال العثماني للعراق سعى المحتلون إلى فرض نظام الإقطاع على أغلب المساحات الزراعية , قاصدين السيطرة التامة على نظام الضرائب بواسطة الإقطاعيين من جهة , والحد من كل نشاط وطني أو فكري من شأنه توعية الناس على مساوئ الاستعمار وأعوانه , وقد اختاروا لهذه المهام بعض شيوخ العشائر القساة على أبناء جلدتهم , وزودوهم بكل الصلاحيات التي جرَّدت الفلاحين من كل الصفات الإنسانية , دون مبالاة لأدنى معايير الأخلاق , والدين
أما { شرهان المختار } فقد كان شيخ قبيلة , محبوبا لدى الجميع , يصلح ذات البين , يعدل عند الحكم , يتفقد الذين أوصى بهم رب العباد , يواسي من تبعث في نفسه الآمال المواساة , يوصي دائما بالحكمة , والرأي السديد , يغض الطرف عن الجارات , لا يأكل إلا
عند تشابك الأكف , مطابخه سود القدور , والمواقد عنده بلا رماد , يقارع الاحتلال والمحتلين , ويكره الخائنين
أثار الحسد ذلك , والغيرة لدى ضعاف النفوس من أبناء القبيلة بدفع , وتشجيع من الحكام الأتراك الذين لا يخدمهم شيخ بهذه المواصفات فخططوا لتدبير { فخ } للتخلص منه بلا رجعة , وتنصيب بديل يلبي ما وجهوا البلاد إليه من ذل , واستعباد , وجهل
وقع اختيارهم على أحد أتباعه المقربين إليه , وهو ابن عم له , ويحظى عنده بمنزلة فريدة , فهو مطرب ذو صوت ريفي شجي , سريع البديهة , حاضر النكته , فصيح اللسان وذلك اكتسبه من ملازمته دوما لمجالس ابن عمه الشيخ { شرهان } وإصغائه لحكمته , والمجالس مدارس كما يُقال , الشيخ لم يرفض طلبا له قط
دبَّر { ماهود } المكيدة بكل تأن , وإتقان , إذ كرر كل يوم , وأثناء انعقاد المجلس في مضيف الشيخ { شرهان } كررطلبا بلهجة المزاح بأن يتنازل له الشيخ عن { زعامة القبيلة } ليوم واحد فقط , ولما كان صنف { الشراهين } طيبي القلوب , وسرعان ما يخدعون من قبل الخبثاء , فقد استجاب لطلب ابن عمه { اللئيم } , بل زاد في ذلك أن أعلن أمام القوم بأنه { أي الشيخ } خلال ذلك اليوم سيصبح واحدا من أتباع { ماهود } دون أن ينبئه العراف أن الماء يجري من تحته دون دراية منه , وأنه على نهايته باصمٌ بالأصابع العشرين
الخطوة الأولى قام { ماهود } باعتقال ابن عمه , وتوثيق يديه بالحبال , مجردا إياه من بدلته ذات القماش الفاخر المسمى الماهود } , وأشهر سيفه بوجهه طالبا منه بكل صلافة أن يُقبِّل كفَّيه وإلا فإن مصيرة سيكون قطع الرأس , أمهله يوما واحدا لتنفيذ الرغبة الشوهاء , وهو يعلم علم اليقين أن { شرهان } لن يحني القامة وإن كان الثمن الموت , وما عليه إلا أن يستعين بأشباهه الغادرين
لكمِّ الأفواه , وبث الرعب في صفوف القبيلة , والأعوان
حانت ساعة الصفر , تجمع القوم , وجوه كالحة , بعض أصحابها واقفون على الأبراج , ماسكين العصا من النصف , بانتظار لمن سترجح كفة الميزان , فيحلبون النياق بيسر , وهؤلاء لا موقف عندهم , ولا يستحقون الحياة , والبعض الآخر أعوان الباطل , الكارهين لكل مظهر من مظاهر الخير لإشباع أطماع وَعَدَهم بها الجاهل { ماهود } { وأغلبهم للحق كارهون
أما الباقون فهم قلة - كما تعلمون - وما من حيلة لنصرة الحق يملكون
جيء بالشيخ { شرهان } فكرر عليه الطلب الملعون , أنذره وأعاد على مسمع الجميع الإنذار : { قبِّل يدي وإلا فإن مصيرك الموت } لاذ الشيخ بالصمت قليلا , وضع السبابة بأذنه , لم يسبق له أن جرَّب الغناء , بطور { الصبِّي } أخرس الحضور , غنَّى الموال الزهيري الذي استشهدنا به أول المقال , حتى شطريه الأخيرين
والله لو كطعوني بشفرات الهنادي وصل
ما أدنك على أيد النذل , لا والله ولا أحبها
مع القفل الأخير تدحرج رأسه بين فخذيه ليترك درسا لكل شجاع آثر الموت على العيش بذلٍّ تحت ربقة العبودية للتافهين , وغدا موَّاله نشيدا , وشاهدا على الأثر الجليل
سيداتي , سادتي { لكل حديث ربَّاط } كما قلنا ولابد أن كلا منكم قد اهتدى إلى تحليله الخاص لتلك الحكاية الواقعة فعلا ,
وما قصدت أن البائعين الذمم , التابعين الشياطين , موجودون , في كل زمان , وكل مكان , بإمكانهم تغيير الأسامي , والهويات , حتى الوجوه , يبيعون الدم , والكرامة , وماء الوجه من أجل أن يرضى عنهم السلطان , ألا تبا لهؤلاء , واسودَّت فيهم الجباه
مديح الصادق