دولة العباسيين
ومروان هذا هو رابع عشر خلفاء بني أمية وآخرهم؛ إذ ظهرت في أيامه الدعوة للعباسيين في خراسان بمسعى أبي مسلم الخراساني؛ وذلك أنه كان يوجد بالأقطار الإسلامية أحزاب قوية ضدَّ بني أمية، فمنها حزب يقول بأحقية أولاد سيدنا علي بن أبي طالب بالخلافة، وآخر يقول باستحقاق أولاد العباس عم النبي ﷺ، وظهر حزب العلويين أكثر من مرة في مدة الأمويين فعاد بالخيبة لظهوره في أوائل خلافتهم وقوة شوكتهم، فقُتل الحسين سنة ٦١، وقُتل زيد بن علي بن الحسين سنة ١٢٢، وفي هاتين الواقعتين قتل كثير من أولادهم وأقاربهم حتى ضعف حزبهم وتفرق من حولهم.
أما بنو العباس فاستعملوا التؤدة والصبر، ولم يفاجئوا الأمويين في بدء ظهورهم، بل بثوا أعوانهم في جميع الجهات لاستمالة الناس إلى بيعتهم، ووجهوا همتهم إلى جهات الشرق — مثل العراق وإيران وخراسان وما جاورها — لبعدها عن مركز خلافة الأمويين وعدم تعلقهم بهم تعلُّقَ أهل الشام ومصر. وثابروا على هذه الخطة إلى أن ضعف حال الأمويين وتضعضع شأنهم ووقع الشقاق والانقسام بينهم حتى تولى الخلافة ثلاثة في سنة واحدة، وهم: الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ويزيد بن الوليد بن عبد الملك، وأخوه إبراهيم.
ولم يُقعد العباسيين عن هذا الثبات موت القائم بهذه الدعوة وهو محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، بل قام بها بعده ولده إبراهيم الإمام. ولما شاع خبر مساعيهم قبض مروان على إبراهيم المذكور وحبسه في حران حتى مات، وكان ذلك في سنة ١٢٩؛ فقام بالدعوة أخوه أبو العباس الذي لقب فيما بعدُ بالسفاح، وفيها أظهر أبو مسلم الخراساني الدعوة للعباسيين ببلاد خراسان، وحارب نصر بن سيار العامل عليها من قبل الأمويين، وانتصر عليه ودخل مدينة مرو.
وفي صفر سنة ١٣٢ أتى أبو العباس إلى الكوفة، واختفى بها إلى يوم الجمعة ١٢ ربيع الأوَّل، وفيه خرج إلى الجامع وبايعه الناس بالخلافة، ثم أتى مروان لمحاربته فهُزم بالزاب، وتبعه عساكر العباسيين إلى أن قُتل في بوصير بمصر في أواخر ذي الحجة سنة ١٣٢، وبذلك تم انتقال الخلافة إلى بني العباس، ولم يجعلوا مقر ملكهم مدينة دمشق، بل أقام أبو العباس بالكوفة، وكذلك أخوه أبو جعفر المنصور إلى أن بنى مدينة بغداد، وذلك لعدم ثقتهم بأهل الشام لميلهم إلى بني أمية، لكن انتقال مقر الخلافة إلى العراق كان سببًا في فصم عرى الروابط بين الخلافة والولايات البعيدة مثل الأندلس وإفريقية (تونس والجزائر) فانفصلت تدريجيًّا كما ترى.
ولم يهدأ بال العباس من جهة الأمويين إلا بعد أن قتل منهم نحو تسعين رجلًا، قتلوا ضربًا بالعمد، ثم بسطت عليهم الأنطاع ومدت الموائد وأكل الناس وهم يسمعون أنينهم حتى ماتوا، وأمر بنبش قبورهم وإحراق عظامهم، ولم يفلت من بني أمية على ما قيل إلا من هرب إلى الأندلس، وكان من ضمنهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم فاستولى على الأندلس، وبقيت في عقبه لسنة ٤٢٠.
ولقب العباس بالسفاح لكثرة سفكه الدماء، ومات في ذي الحجة سنة ١٣٦ ودفن في الأنبار، وقد عهد بالخلافة بعده إلى أخيه أبي جعفر المنصور، ثم من بعده إلى عيسى ابن أخيه موسى، وفي سنة ١٣٧ بايع عم المنصور — وهو عبد الله بن علي — لنفسه، فأرسل إليه المنصور أبا مسلم الخراساني فهزمه وهرب عبد الله وبقي مختفيًا إلى سنة ١٣٩ حتى ظفر به المنصور وقتله. وفي شعبان سنة ١٣٧ قتل المنصور أبا مسلم الخراساني — مع أنه سبب حصول العباسيين على الخلافة بسعيه واجتهاده — قتله لخوفه من امتداد نفوذه والخروج عليه واختلاس الخلافة لنفسه.
وفي سنة ١٤١ حصلت فتنة الراوندية الذين قالوا بألوهية أبي جعفر المنصور، فحاربهم حتى قتلهم عن آخرهم. وفي سنة ١٤٥ بايع أهل المدينة محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين — الملقب بالنفس الزكية — بالخلافة، فأرسل إليه أبو جعفر عيسى بن موسى فحاربه وقتله مع كثير من أهل بيته في رمضان من السنة المذكورة. وفي أثناء ذلك كان أخوه إبراهيم قد قصد البصرة وطلب البيعة من أهلها لأخيه محمد النفس الزكية فبايعوه، ثم أرسل من استولى على الأهواز وواسط، ولما أتاه خبر قتل أخيه سار بجموعه قاصدًا الكوفة، فلاقاه عيسى بن موسى وكان قد عاد من المدينة بعد موت محمد فحاربه حتى قتله. وبذلك انتهت هذه الفتنة وأَمِن المنصور جانب العلويين. وفي أثناء هذه الفتن تُوفي ببغداد الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان — رضي الله عنه — ثم تفرَّغ المنصور لبناء مدينة بغداد وانتقل إليها، وتوفي في ٦ ذي الحجة سنة ١٥٨ وعمره ثلاث وستون سنة، ولم يتبع ما أوصى به العباس، بل أوصى بالخلافة لابنه محمد المهدي، وخلع عيسى ابن أخيه موسى من ولاية العهد.
ومن أهم أعمال محمد المهدي تنظيمه البريد، وتعميمه بين المدائن العظيمة، وغزو الروم مرتين بمعرفة ابنه هارون الرشيد. وفي أيامه ظهر بعض الزنادقة في حلب؛ فجمعهم المهدي وقتلهم عن آخرهم ومزَّق كتبهم، واستمرت خلافته عشر سنين وشهرًا، وتوفي في ٢٢ محرم سنة ١٦٩ بماسندان وعمره ٤٣ سنة، فأخذ ولده هارون البيعة لأخيه موسى الهادي الذي كان يحارب بجرجان، وفي خلافة موسى الهادي بن محمد المهدي ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وادعى الخلافة بالمدينة؛ فاجتمع عليه كثير وبايعوه، فحاربه العباسيون وقتلوه مع كثير من رفقائه وأهل بيته في ذي الحجة سنة ١٦٩، وفرَّ من القتل إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى بلاد المغرب، وهو مؤسس عائلة الإدريسيين بمراكش. وتوفي موسى الهادي في ١٤ ربيع الأول سنة ١٧٠ وعمره أربعة وعشرون سنة، فتولى بعده أخوه شقيقه هارون الرشيد وعمره ٢٢ سنة، وكانت ولادته بالري في ذي الحجة سنة ١٤٨، وأمهما الخيزران، وهي أم ولد.
وهارون الرشيد هو خامس خلفاء بني العباس، وفي مدته بلغت دولتهم أعلى درجات الكمال، وفي أيامه ظهر يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وبايعه خلق كثير في سنة ١٧٦، فأرسل إليه هارون الرشيد الفضل بن يحيى البرمكي في جيش عظيم، ففضل الفضل المسالمة على الحرب، وكاتب يحيى وأمَّنه على نفسه، فطلب أن يكتب له الرشيد بالأمان بخطه ففعل، وعلى ذلك حضر يحيى إلى بغداد فأكرمه الرشيد ثم سجنه حتى مات. وفي هذه السنة حصلت بدمشق فتنة عظيمة بين المضرية واليمنية قتل فيها كثيرون، وفي سنة ١٧٩ تُوفي الإمام مالك — رضي الله عنه — وهو ثاني الأئمة الأربعة.
وفي سنة ١٨٤ ولِّيَ إبراهيم بن الأغلب على إفريقية، وبقيت له في ذريته إلى أن ظهر الفاطميون واستقلوا بملك إفريقية ومصر كما تراه في آخر هذه المقدمة.
وفي سنة ١٨٧ تحول الرشيد عن البرامكة لمَّا رأى امتداد نفوذهم وزيادة أموالهم وأملاكهم وميل الناس إليهم وكثرة عطاياهم؛ فخشي من أن تطمح أنظارهم إلى ما فوق ذلك أو يقصدوه وعائلته بسوء طمعًا في تولِّي الخلافة، فلهذه الأسباب أصرَّ على الإيقاع بهم، فقَتَل جعفر بن يحيى في الأنبار عند عودة الرشيد من الحج في أول صفر سنة ١٨٧، وأرسل رأسه وجثته إلى بغداد فنصبت بها أيامًا. ثم أرسل من أحاط بيحيى البرمكي وولده الفضل وصادرهم في جميع أموالهم من منقول وثابت. وبذلك انقضت وزارة البرامكة بعد أن بقيت فيهم سبع عشرة سنة، وأما ما يذكره بعض المؤرخين ويجعلونه سببًا للإيقاع بالبرامكة فغير صحيح.
وفي سنة ١٩٠ توفي يحيى بن خالد بن برمك بالحبس، وكذلك توفي بالحبس ولده الفضل في محرم سنة ١٩٣، وفي ٣ جمادى الثانية من هذه السنة توفي الخليفة هارون الرشيد في مدينة طوس أثناء سفره، فصلى عليه ابنه صالح وأخذ البيعة لأخيه محمد الأمين وأرسل يخبره بذلك. وكان الرشيد قد عهد بالخلافة بعده لولده الأمين ثم للمأمون ثم لابنه القاسم ولقَّبه بالمؤتمن، لكن جعل أمر استمراره في ولاية العهد وعزله في يد المأمون، إن شاء استخلفه وإن شاء عهد بالخلافة لغيره، فلم يتبع الأمين هذا العهد، بل أبطل ذكر أخيه المأمون في الخطبة في سنة ١٩٥، وأمر بأن يخطب لابنه موسى، ولقبه الناطق بالحق، وكان المأمون بخراسان، فلما بلغه خبر هذا التغيير لم يقبله، واجتمع حوله وبايعه كل من تحول عن الأمين، لانهماكه في الملاذِّ واحتجابه عن الناس وصرفه أوقاته فيما لا يعود على الخلافة بخير، فجهز الأمين جيشًا لمحاربة أخيه المأمون، واستمرت هذه الفتنة إلى سنة ١٩٧ﻫ، وفيها تغلبت جيوش المأمون على جيوش الأمين، وحوصر الأمين في بغداد مدة، وقُتل أخيرًا في ٢٥ محرم سنة ١٩٨ وعمره ثمان وعشرون سنة، وبويع بالخلافة لأخيه المأمون وهو سابع بني العباس.
وكان من أعماله خلع أخيه القاسم من ولاية العهد بما له من الحق بمقتضى عهد أبيه الرشيد، وأقام مكانه في سنة ٢١٠ عليَّ الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وخلع شعار بني العباس — وهو السواد — ولبس الخضرة — شعار العلويين — وأمر جنده بذلك، فنقم عليه العباسيون بإخراجهم عن الخلافة، وتآمروا على عزله، وكان بمرو فعزله أهل بغداد وبايعوا إبراهيم بن المهدي العباسي في محرم سنة ٢٠٢، ولما بلغ المأمون خبر خروج أهل بغداد عليه سار إليها من مرو ومعه عليُّ الرضا، وفي صفر سنة ٢٠٣ توفي علي الرضا فجأة بالطريق بمدينة طوس فصلى عليه المأمون ودفنه بجوار قبر والده الرشيد، ثم أرسل إلى أهل بغداد يخبرهم بموته وبعودته إلى ما عهد به أبوه؛ فتفرَّق الناس من حول إبراهيم بن المهدي ودخلها عسكر المأمون، لكنهم لم يظفروا به، بل اختفى وبقي مختفيًا إلى أن ضبط في ربيع الآخر سنة ٢١٠ وعفا عنه المأمون، وتوفي في رمضان سنة ٢٢٤.
وفي أوائل سنة ٢٠٤ عاد المأمون وانقطعت الفتن وترك الخضرة وعاد إلى لبس السواد شعار بني العباس، وعادت الأحوال إلى ما كانت عليه. وفي هذه السنة توفي بمصر الإمام محمد بن إدريس الملقب بالشافعي ثالث الأئمة الأربعة. وفي سنة ٢١٢ قال المأمون بخلق القرآن، وجبر الناس على القول بذلك واضطهد كل من خالفه، وهو الذي أمر محمد بن آلوسي بن شاكر وأخويه أحمد والحسين بتحقيق طول خط نصف النهار لمعرفة مقدار محيط الكرة الأرضية بالضبط، فقاموا بهذه المأمورية العلمية خير قيام، وقاسوا أحد خطوط الطول في سهل سنجار، ثم أعادوا المقاس ثانيًا في وطأة الكوفة، وهذا دليل على سبق العرب للإفرنج في معرفة كروية الأرض.
وفي أيامه تُرجمت أغلب كتب اليونان العلمية والفلسفية، وبلغ التمدن أعلى الدرجات. وفي سنة ٢١٦ زار مصر، وتوفي في ١٩ رجب سنة ٢١٨ بعد أن أوصى لأخيه أبي إسحاق محمد المعتصم بالله، ودفن بطرسوس وسِنُّه سبع وأربعون سنة، ومدة خلافته عشرون سنة ونصف تقريبًا، فبايع الناس المعتصم إلا بعض الجنود فبايعوا العباس بن المأمون، فاستدعى المعتصم العباس فبايعه، وخرج للجند ونصحهم بمبايعة المعتصم فبايعوه، وهي أول مرة تداخل الجند في أمر الخلافة.
ومن أعمال المعتصم بناء مدينة سامراء، وفتح عمورية التي كان يقدسها الروم. وفي أثناء عودته من عمورية بلغه أن العباس بن المأمون يَكيد له وينوي قتله؛ فأمر بسجنه، فسجن ومات بعد قليل، قيل إن الموكَّل بحراسته منع عنه الماء حتى مات، وأرسل المعتصم أحد قواد جيوشه واسمه الإفشين خيذر لمحاربة بابك المجوسي الذي استولى على جبال طبرستان مدة عشرين سنة تقريبًا، فحاربه وقبض عليه وأحضره أمام المعتصم فقتله، وفي سنة ٢٢٦ غضب المعتصم على الإفشين فقتله.
وفي ١٨ ربيع الأول سنة ٢٢٧ توفي المعتصم وعمره ثمانٍ وأربعون سنة تقريبًا، وهو أول من أضيف اسم الله تعالى إلى لقبه، وبويع بعده ابنه الواثق بالله هارون. ولما تولى الواثق حصلت فتنة بدمشق؛ فأرسل إليها جيشًا أعاد السكينة إليها، وكان له وزير تركي اسمه أشناس أعطى إليه الواثق علامات الإمارة وهي تاج ووشاحين؛ ومن ثم ابتدأ وفود قبائل الترك إلى بلاد العراق ودخولهم في الوظائف العالية خصوصًا الجندية؛ الأمر الذي أوجب تدخلهم في أمور الخلافة واستيلاءهم على السلطة الفعلية، وتوفي أشناس التركي سنة ٢٢٩، ومما أوجب ضعف دولة العباسيين جعلهم بلاد خراسان وراثية تقريبًا في عائلة طاهر بن عبد الله.
وتوفي الواثق في ٢٤ ذي الحجة سنة ٢٣٢، واختلف فيمن يعيَّن بعده، فقال فريق بمبايعة ابنه محمد، وقال آخر بعدم صلاحيته لصغر سنه. وأخيرًا اتفق على مبايعة المتوكل جعفر بن المعتصم، وهو عاشر خلفاء بني العباس، وفي مدته توفي الإمام أحمد بن حنبل أحد الأئمة الأربعة في سنة ٢٤١. وشرع المتوكل في نقل مركز حكومته إلى دمشق ونقل إليها دواوينه، ولم يقم بها إلا شهرين في سنة ٢٤١، ثم عاد إلى سامراء، وقُتل المتوكل سنة ٢٤٧؛ قتله بعض مماليكه باتفاق مع ابنه المنتصر وبغا الصغير الشرابي، وقيل: إنه قُتل في مجلس شرابه، وقتل معه وزيره الفتح بن خاقان في ليلة الأربعاء ٣ شوال سنة ٢٤٧، ومدة خلافته خمس عشرة سنة تقريبًا وعمره نحو أربعين سنة، ثم حصلت البيعة لابنه المنتصر لكن لم تطل مدته، بل توفي في يوم الأحد ٤ ربيع الأول سنة ٢٤٨ وعمره خمس وعشرون سنة ونصف، ومدة خلافته ستة شهور.
وبويع بعده أحمد المستعين بالله بن محمد المعتصم، ولم يرغب رجال الدولة — خصوصًا الأتراك — في مبايعة أحد أولاد المتوكل، وبذلك ازداد تداخلهم في انتخاب الخلفاء وعزلهم، بل وقتلهم، حتى صار الأمر بيدهم، وزادت الفتن بين العرب والأتراك في خلافة المستعين، وتأيَّد نفوذ عائلة طاهر بن عبد الله بخراسان. ولما توفي طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عبد الله في رجب سنة ٢٤٨ عيَّن المستعين ولده محمد بن طاهر، وكذلك لما توفي بغا التركي ولَّى ابنه موسى مكانه؛ فصارت الوظائف وراثية تقريبًا في بعض العائلات الأجنبية.
وفي خلافة المستعين ظهر يعقوب بن الليث الصفار، وتحرك من سجستان قاصدًا هرات للاستيلاء عليها، وكذلك ظهر الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بطبرستان، واستقل بها إلى أن توفي سنة ٢٨٧، وكان يلقب بالداعي إلى الحق، وحكم بعده الناصر للحق الحسن بن علي، وكان يعرف بالأطروش، وتوفي سنة ٣٠٤، وانقرض بموته ملك العلويين بطبرستان.
فكانت الأحوال في غاية الاضطراب مدة حكم المستعين، وكثر الفساد، وسعى كل عامل في الاستقلال بما ولي عليه، وضعفت الحكومة حتى صارت ألعوبة في يد أصحاب الدسائس، وزادت الفتن بين أحزاب الأتراك في سنة ٢٥١ حتى حاصروا المستعين بقصره بسامراء، فهرب منها إلى بغداد، فبايع العصاة المعتز بالله بن المتوكل، وهو أرسل أخاه أبا أحمد طلحة في خمسين ألف تركي لمحاربة المستعين ببغداد، ثم اتفق كبار الدولة على خلع المستعين حسمًا للمشاكل وحقنًا للدماء؛ فخلعوه وأخبروه بذلك، فقبل وبايع المعتز بالله، وخُطب له في بغداد يوم الجمعة ٤ محرم سنة ٢٥٢، ثم قُتل المستعين بأمر المعتز بعد أن مُنع من السفر إلى مكة وحبس.
وفي مدة المعتز حصلت جملة فتن بين العسكر الأتراك فقتلوا قائدهم «وصيف» سنة ٢٥٣، ولم يعاقبهم الخليفة، بل أعطى كل ما كان له إلى بغا الشرابي، ثم أمر بقتله سنة ٢٥٤. وفي هذه السنة ولي أحمد بن طولون على مصر فاستقلَّ بها مع حفظ السيادة الاسمية للعباسيين، إلى أن توفي سنة ٢٧٠، وخلفه ابنه خمارويه الملقب بأبي الجيوش. وفي سنة ٢٥٥ استولى يعقوب الصفار على كرمان ثم على بلاد فارس، ودخل شيراز، وكتب للخليفة يعترف له بالسيادة، وأرسل إليه هدايا عظيمة، فاكتفى الخليفة، وفَقَد بذلك جميع أملاكه الواقعة شرق بغداد تقريبًا، كما فقد مصر، وكما استقلَّ الأمويون بالأندلس والإدريسيون بالمغرب الأقصى، بحيث صارت الأقاليم التابعة للعباسيين لا تزيد عن ربع ما كان قبلهم لدولة بني أمية.
وفي ٢٦ رجب سنة ٢٥٥ ثار عليه الأتراك من الجند لعدم مقدرته على أداء ما يطلبونه من الأموال؛ فأهانوه وأشهدوا على خلعه، وبايعوا المهتدي محمد بن الواثق، وهو رابع عشر العباسيين. وفي ٢ شعبان من السنة المذكورة مات المعتز جوعًا بمنع الطعام والشراب عنه. وفي مدته ابتدأ ظهور شخص اسمه علي بن محمد، وادعى الانتساب للعلويين، وجمع قبائل الزنوج النازلين بالقرب من البصرة، وصار يعثو هو ورجاله في الأرض إلى أن قُتل سنة ٢٧٠. ولم تطل خلافة المهتدي، بل حصلت حروب بينه وبين الأتراك بسبب قتله أحد قوادهم المدعو بايكيال، وظفروا به أخيرًا وقتلوه في ١٨ رجب سنة ٢٥٦، وأخرجوا أبا العباس أحمد بن المتوكل من السجن وبايعوه، ولُقِّب المعتمد على الله، وهو خامس عشرهم، وفي مدته توفي الإمام البخاري في ليلة عيد الفطر سنة ٢٥٦، والإمام مسلم في سنة ٢٦١. واستفحل أمر يعقوب الصفار فاستولى على بلخ وكابل والأهواز، ثم توفي في ١٩ شوال سنة ٢٦٥، وخلفه أخوه عمرو، وكتب للخليفة بالطاعة؛ فولاه جميع البلاد التي كانت تحت يد أخيه، وعظم شأن الحسن بن زيد العلوي بطبرستان، واستولى على جرجان، ثم توفي سنة ٢٧٠، وتولى أخوه محمد بن زيد، وعصى العرب في حمص حاكمهم التركي وقتلوه، واستولى الزنوج على البصرة وقتلوا كثيرًا من أهلها، ودخلوا مدينة واسط، ووصلت طلائعهم إلى بغداد نفسها، فازدادت الخلافة ضعفًا على ضعف وتخللت الفوضى جميع أجزائها، واستبدَّ القوَّاد والحكام لعدم وجود رادع أو مراقب.