• منتديات شباب الرافدين .. تجمع عراقي يقدم محتوى مميز لجميع طلبة وشباب العراق .. لذا ندعوكم للانضمام الى اسرتنا والمشاركة والدعم وتبادل الافكار والرؤى والمعلومات. فأهلاَ وسهلاَ بكم.

تاريخ الدولة العثمانية

الإهداءات
  • زهور من من قلب الزهور❤️:
    يارب العوض عن كل شعُور أثقل القلب ✨
  • زهور من من قلب الزهور✨:
    ... ما أبسطنا وما أصعب كل شيئ....
الموضوع طويل
وادعو اللة ان يوفقنا فى استكمالة
وجعلة حصريا لهذا المنتدى
السلطان الغازي عثمان خان الأول
بعد أن بلغت الدولة العباسية أَوْجَ التقدُّم والتمدن في خلافة هارون الرشيد وابنه المأمون الذي ترجمت في أيامه أغلب كتب اليونان، وتقدَّمت العلوم تحت وارف ظلها تقدُّمًا لم تبلغه الدول الإسلامية قبل عصره، أخذت الدولة في التقهقر شيئًا فشيئًا تبعًا لناموس الحياة الطبيعية القاضي بالهرم بعد الشبيبة، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلًا. واستمر الانحلال ينخر عظامها حتى إنها سقطت بسقوط دار السلام١ في قبضة قبائل التتار في ٢٠ محرم سنة ٦٥٦ هجرية (١٢٥٨م)، وقتلهم الخليفة المستعصم بالله آخر العباسيين ببغداد بعد أن لبثت دولتهم زيادة عن خمسة قرون دعامة التمدُّن الإسلامي.
ومن ثمَّ لم يكن للإسلام بعدها دولة عظيمة تحمي بيضته وتضم أشتاته، بل ضاعت وحدته الملكية، واستقلَّ كل حاكم بما وكل إليه أمره من العمالات، واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن قيَّض الله للإسلام تأسيس الدولة العلية العثمانية؛ فجمعت تحت رايتها أغلب البلاد الإسلامية، وفتحت كثيرًا من الأقاليم التي لم يسبقْ تحلِّيها بحلية الدين الحنيف، وأعادت للإسلام قوَّته، وأعلت بين الأنام كلمته.

ومؤسس هذه الدولة هو «أرطغرل» بن سليمان شاه التركماني — قائد إحدى قبائل الترك النازحين من سهول آسيا الغربية إلى بلاد آسيا الصغرى — وذلك أنه كان راجعًا إلى بلاد العجم بعد موت أبيه غرقًا عند اجتيازه أحد الأنهر إذ شاهد جيشين مشتبكين؛ فوقف على مرتفع من الأرض ليمتِّع نظره بهذا المنظر المألوف لدى الرحل من القبائل الحربية، ولما آنس الضعف في أحد الجيشين وتحقق انكساره وخذلانه إن لم يمدَّ إليه يد المساعدة دبت فيه النخوة الحربية ونزل هو وفرسانه مسرعين لنجدة أضعف الجيشين، وهاجم الجيش الثاني بقوَّة وشجاعة عظيمتين حتى وقع الرعب في قلوب الذين كادوا يفوزون بالنصر لولا هذا المدد الفجائي، وأعمل فيهم السيف والرمح ضربًا ووخزًا حتى هزمهم شرَّ هزيمة، وكان ذلك في أواخر القرن السابع للهجرة.

وبعد تمام النصر علم أرطغرل بأن الله قد قيضه لنجدة الأمير علاء الدين سلطان قونية — إحدى الإمارات السلجوقية — التي تأسست عقب انحلال دولة آل سلجوق بموت السلطان «ملك شاه» في ١٥ شوال سنة ٤٨٥ (١٨ نوفمبر سنة ١٠٩٢م)،٢ فكافأه علاء الدين على مساعدته له بإقطاعه عدة أقاليم ومدن، وصار لا يعتمد في حروبه مع مجاوريه إلا عليه وعلى رجاله. وكان عقب كل انتصار يُقطعه أراضي جديدة ويمنحه أموالًا جزيلة، ثم لقب قبيلته بمقدمة السلطان لوجودها دائمًا في مقدمة الجيوش وتمام النصر على يديه، وفي غضون ذلك تزوَّج عثمان أكبر أولاد أرطغرل ببنت رجل صالح كان رآها مصادفة عند والدها وعلق بها، ولكن أبى والدها أن يزوجها له فحزن عثمان لذلك، وأظهر الصبر والجلد، ولم يرغب الاقتران بغيرها حتى قَبِل أبوها بعد أن قصَّ عليه عثمان منامًا رآه ذات ليلة في بيت هذا الصالح، وهو أنه رأى القمر صعد من صدر هذا الشيخ، وبعد أن صار بدرًا نزل في صدره — أي في صدر عثمان — ثم خرجت من صلبه شجرة نمت في الحال حتى غطت الأكوان بظلها، ونظر أكبر الجبال تحتها، وخرج النيل والدجلة والفرات والطونة من جذعها، ورأى ورق هذه الشجرة كالسيوف يحوِّلها الريح نحو مدينة القسطنطينية.
فتفاءل الشيخ من هذا المنام وزوَّجه ابنته، ومع اعتقادنا أن هذا المنام لا بد أن يكون موضوعًا كما يضع المؤرخون مثل هذه الأحلام لتعليل ظهور وتقدم كل دولة، سواء كان في ممالك الشرق أو الغرب، فقد ذكرناه تتميمًا للفائدة. وقبل أن يَبْنِيَ بها كان طلبها أمير أسكي شهر، فرفض والدها طلبه فحنق على عثمان لما تزوجها وأراد أن يفتك به؛ فهاجمه في قصر أحد مجاوريه وطلب من صاحب القصر أن يسلمه إليه فأبى، ثم خرج عليه عثمان ومن معه ورده على عقبه، وأسر كوسه ميخائيل — أحد من كان معه من الأمراء — ولكثرة إعجاب هذا الأمير بشجاعة عثمان تعلق به وصار من أخصائه، ثم أسلم وبقيت ذريته مشهورة في تاريخ الدولة باسم عائلة ميخائيل أوغلي.

ولما توفي أرطغرل سنة ٦٨٧ﻫ الموافقة سنة ١٢٨٨م عين الملك علاء الدين أكبر أولاده مكانه، وهو «عثمان» مؤسس دولتنا العلية العثمانية. وفي هذه السنة ولدت زوجته مال خاتون ولدًا ذكرًا وهو أورخان، ولم يلبث عثمان أن تحصَّل على امتيازات جديدة عقب فتحه قلعة «قره حصار» سنة ٦٨٨ هجرية (الموافقة سنة ١٢٨٩ ميلادية)، فمنحه الملك في السنة المذكورة لقب «بك»، وأقطعه كافة الأراضي والقلاع التي فتحها، وأجاز له ضرب العملة وأن يذكر اسمه في خطبة الجمعة، وبذلك صار عثمان بك ملكًا بالفعل لا ينقصه إلا اللقب.

وفي سنة ١٣٠٠م تقريبًا الموافقة سنة ٦٩٩ﻫ؛ أي السنة المتممة للقرن السابع من التاريخ الهجري٣ أغارت جموع التتار على بلاد آسيا الصغرى، وفيها كانت وفاة علاء الدين آخر السلجوقيين بقونية، قيل قتله التتر، وقيل قتله ولده غياث الدين طمعًا في الملك، ولما قتل التتار غياث الدين أيضًا انفتح المجال لعثمان فاستأثر بجميع الأراضي المقطعة له، ولقب نفسه «باد يشاه آل عثمان»، وجعل مقرَّ ملكه مدينة «يكي شهر»، وأخذ في تحصينها وتحسينها، ثم أخذ في توسيع دائرة أملاكه أزميد٤ ثم أزنيك،٥ ولما لم يتمكن من فتحها عاد إلى عاصمته واشتغل في تنظيم البلاد حتى إذا أمن اضطرابها وتجهز للقتال أرسل إلى جميع أمراء الروم ببلاد آسيا الصغرى يخيِّرهم بين ثلاثة أمور: الإسلام أو الجزية أو الحرب، فأسلم بعضهم وانضم إليه، وقبل البعض دفع الخراج، واستعان الباقون على السلطان عثمان بالتتار واستدعوهم لنجدتهم، لكن لم يعبأ بهم السلطان عثمان، بل هيأ لمحاربتهم جيشًا جرارًا تحت إمرة ابنه أورخان، فسار إليهم هذا الشبل ومعه عدد ليس بقليل من أمراء الروم ومن ضمنهم كوسه ميخائيل صديق عثمان الذي اختار الإسلام دينًا، وبعد محاربة عنيفة شتَّتَ شمل التتار وعاد مسرعًا لمحاصرة مدينة بورصة،٦ فحاصرها سنة ٧١٧ﻫ الموافقة سنة ١٣١٧م. وللتمكن من فتحها بسهولة هاجم حصن أردنوس الكائن على قمة جبل أولمب،٧ فدخله عنوة، ثم دخل مدينة بورصة بعد أن فتح كافة ما حولها من القلاع والحصون وحاصرها نحو عشر سنوات من غير ما حرب ولا قتال؛ إذ أرسل ملك القسطنطينية أوامره لعامله على هذه المدينة بالانسحاب؛ فأخلاها، ودخلها أورخان وعساكره ولم يتعرَّض لأهلها بسوء مقابل دفع ثلاثين ألفًا من عملتهم الذهبية، وأسلم حاكمها «أفرينوس»، وأعطي له لقب بك، وصار من مشاهير قوَّاد العثمانين.
 
السلطان الغازي عثمان خان الأول
بعد أن بلغت الدولة العباسية أَوْجَ التقدُّم والتمدن في خلافة هارون الرشيد وابنه المأمون الذي ترجمت في أيامه أغلب كتب اليونان، وتقدَّمت العلوم تحت وارف ظلها تقدُّمًا لم تبلغه الدول الإسلامية قبل عصره، أخذت الدولة في التقهقر شيئًا فشيئًا تبعًا لناموس الحياة الطبيعية القاضي بالهرم بعد الشبيبة، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلًا. واستمر الانحلال ينخر عظامها حتى إنها سقطت بسقوط دار السلام١ في قبضة قبائل التتار في ٢٠ محرم سنة ٦٥٦ هجرية (١٢٥٨م)، وقتلهم الخليفة المستعصم بالله آخر العباسيين ببغداد بعد أن لبثت دولتهم زيادة عن خمسة قرون دعامة التمدُّن الإسلامي.
ومن ثمَّ لم يكن للإسلام بعدها دولة عظيمة تحمي بيضته وتضم أشتاته، بل ضاعت وحدته الملكية، واستقلَّ كل حاكم بما وكل إليه أمره من العمالات، واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن قيَّض الله للإسلام تأسيس الدولة العلية العثمانية؛ فجمعت تحت رايتها أغلب البلاد الإسلامية، وفتحت كثيرًا من الأقاليم التي لم يسبقْ تحلِّيها بحلية الدين الحنيف، وأعادت للإسلام قوَّته، وأعلت بين الأنام كلمته.

ومؤسس هذه الدولة هو «أرطغرل» بن سليمان شاه التركماني — قائد إحدى قبائل الترك النازحين من سهول آسيا الغربية إلى بلاد آسيا الصغرى — وذلك أنه كان راجعًا إلى بلاد العجم بعد موت أبيه غرقًا عند اجتيازه أحد الأنهر إذ شاهد جيشين مشتبكين؛ فوقف على مرتفع من الأرض ليمتِّع نظره بهذا المنظر المألوف لدى الرحل من القبائل الحربية، ولما آنس الضعف في أحد الجيشين وتحقق انكساره وخذلانه إن لم يمدَّ إليه يد المساعدة دبت فيه النخوة الحربية ونزل هو وفرسانه مسرعين لنجدة أضعف الجيشين، وهاجم الجيش الثاني بقوَّة وشجاعة عظيمتين حتى وقع الرعب في قلوب الذين كادوا يفوزون بالنصر لولا هذا المدد الفجائي، وأعمل فيهم السيف والرمح ضربًا ووخزًا حتى هزمهم شرَّ هزيمة، وكان ذلك في أواخر القرن السابع للهجرة.

وبعد تمام النصر علم أرطغرل بأن الله قد قيضه لنجدة الأمير علاء الدين سلطان قونية — إحدى الإمارات السلجوقية — التي تأسست عقب انحلال دولة آل سلجوق بموت السلطان «ملك شاه» في ١٥ شوال سنة ٤٨٥ (١٨ نوفمبر سنة ١٠٩٢م)،٢ فكافأه علاء الدين على مساعدته له بإقطاعه عدة أقاليم ومدن، وصار لا يعتمد في حروبه مع مجاوريه إلا عليه وعلى رجاله. وكان عقب كل انتصار يُقطعه أراضي جديدة ويمنحه أموالًا جزيلة، ثم لقب قبيلته بمقدمة السلطان لوجودها دائمًا في مقدمة الجيوش وتمام النصر على يديه، وفي غضون ذلك تزوَّج عثمان أكبر أولاد أرطغرل ببنت رجل صالح كان رآها مصادفة عند والدها وعلق بها، ولكن أبى والدها أن يزوجها له فحزن عثمان لذلك، وأظهر الصبر والجلد، ولم يرغب الاقتران بغيرها حتى قَبِل أبوها بعد أن قصَّ عليه عثمان منامًا رآه ذات ليلة في بيت هذا الصالح، وهو أنه رأى القمر صعد من صدر هذا الشيخ، وبعد أن صار بدرًا نزل في صدره — أي في صدر عثمان — ثم خرجت من صلبه شجرة نمت في الحال حتى غطت الأكوان بظلها، ونظر أكبر الجبال تحتها، وخرج النيل والدجلة والفرات والطونة من جذعها، ورأى ورق هذه الشجرة كالسيوف يحوِّلها الريح نحو مدينة القسطنطينية.
فتفاءل الشيخ من هذا المنام وزوَّجه ابنته، ومع اعتقادنا أن هذا المنام لا بد أن يكون موضوعًا كما يضع المؤرخون مثل هذه الأحلام لتعليل ظهور وتقدم كل دولة، سواء كان في ممالك الشرق أو الغرب، فقد ذكرناه تتميمًا للفائدة. وقبل أن يَبْنِيَ بها كان طلبها أمير أسكي شهر، فرفض والدها طلبه فحنق على عثمان لما تزوجها وأراد أن يفتك به؛ فهاجمه في قصر أحد مجاوريه وطلب من صاحب القصر أن يسلمه إليه فأبى، ثم خرج عليه عثمان ومن معه ورده على عقبه، وأسر كوسه ميخائيل — أحد من كان معه من الأمراء — ولكثرة إعجاب هذا الأمير بشجاعة عثمان تعلق به وصار من أخصائه، ثم أسلم وبقيت ذريته مشهورة في تاريخ الدولة باسم عائلة ميخائيل أوغلي.

ولما توفي أرطغرل سنة ٦٨٧ﻫ الموافقة سنة ١٢٨٨م عين الملك علاء الدين أكبر أولاده مكانه، وهو «عثمان» مؤسس دولتنا العلية العثمانية. وفي هذه السنة ولدت زوجته مال خاتون ولدًا ذكرًا وهو أورخان، ولم يلبث عثمان أن تحصَّل على امتيازات جديدة عقب فتحه قلعة «قره حصار» سنة ٦٨٨ هجرية (الموافقة سنة ١٢٨٩ ميلادية)، فمنحه الملك في السنة المذكورة لقب «بك»، وأقطعه كافة الأراضي والقلاع التي فتحها، وأجاز له ضرب العملة وأن يذكر اسمه في خطبة الجمعة، وبذلك صار عثمان بك ملكًا بالفعل لا ينقصه إلا اللقب.

وفي سنة ١٣٠٠م تقريبًا الموافقة سنة ٦٩٩ﻫ؛ أي السنة المتممة للقرن السابع من التاريخ الهجري٣ أغارت جموع التتار على بلاد آسيا الصغرى، وفيها كانت وفاة علاء الدين آخر السلجوقيين بقونية، قيل قتله التتر، وقيل قتله ولده غياث الدين طمعًا في الملك، ولما قتل التتار غياث الدين أيضًا انفتح المجال لعثمان فاستأثر بجميع الأراضي المقطعة له، ولقب نفسه «باد يشاه آل عثمان»، وجعل مقرَّ ملكه مدينة «يكي شهر»، وأخذ في تحصينها وتحسينها، ثم أخذ في توسيع دائرة أملاكه أزميد٤ ثم أزنيك،٥ ولما لم يتمكن من فتحها عاد إلى عاصمته واشتغل في تنظيم البلاد حتى إذا أمن اضطرابها وتجهز للقتال أرسل إلى جميع أمراء الروم ببلاد آسيا الصغرى يخيِّرهم بين ثلاثة أمور: الإسلام أو الجزية أو الحرب، فأسلم بعضهم وانضم إليه، وقبل البعض دفع الخراج، واستعان الباقون على السلطان عثمان بالتتار واستدعوهم لنجدتهم، لكن لم يعبأ بهم السلطان عثمان، بل هيأ لمحاربتهم جيشًا جرارًا تحت إمرة ابنه أورخان، فسار إليهم هذا الشبل ومعه عدد ليس بقليل من أمراء الروم ومن ضمنهم كوسه ميخائيل صديق عثمان الذي اختار الإسلام دينًا، وبعد محاربة عنيفة شتَّتَ شمل التتار وعاد مسرعًا لمحاصرة مدينة بورصة،٦ فحاصرها سنة ٧١٧ﻫ الموافقة سنة ١٣١٧م. وللتمكن من فتحها بسهولة هاجم حصن أردنوس الكائن على قمة جبل أولمب،٧ فدخله عنوة، ثم دخل مدينة بورصة بعد أن فتح كافة ما حولها من القلاع والحصون وحاصرها نحو عشر سنوات من غير ما حرب ولا قتال؛ إذ أرسل ملك القسطنطينية أوامره لعامله على هذه المدينة بالانسحاب؛ فأخلاها، ودخلها أورخان وعساكره ولم يتعرَّض لأهلها بسوء مقابل دفع ثلاثين ألفًا من عملتهم الذهبية، وأسلم حاكمها «أفرينوس»، وأعطي له لقب بك، وصار من مشاهير قوَّاد العثمانين.

هي مدينة بغداد ولا أزيدك بها علمًا؛ أسَّسَها الخليفة أبو جعفر المنصور — ثاني الخلفاء العباسيين — وشرع في تخطيطها سنة ١٤٥ هجرية، وأتمَّ بناءها سنة ١٤٩ھ، وهي قائمة على ضفتيْ نهر الدجلة. تبعُد عن مصب نهر شط العرب المكون من نهري الدجلة والفرات في الخليج الفارسي بنحو خمسمائة ميل. وقد سمي الجانب الشرقي منها بالرصافة، والغربي بالكرخ، ثم تمت وارتقت في أيام العباسيين، خصوصًا هارون الرشيد والمأمون؛ الذي أنشأ فيها مرصدًا فلكيًّا، وبلغ عدد سكانها سنة ٢١٦ھ نحو مليونين من النفوس.
٢ لمَّا سقطت دولة السلجوقيين تجزَّأت أملاكهم في بلاد الأناضول إلى عشر إمارات صغيرة، وهي قرمسي، وصاروخان، وآيدين، وتكه، والحميد، والقرمان، وكرميان، وقسطموني، ومنتشا، وقونية. ثم ضمت بالفتح إلى مملكة آل عثمان.
٣ من الغريب أنه في رأس كل قرن من الهجرة ظهر رجل كان له شأن في التاريخ الإسلامي؛ ففي رأس القرن الأول كان ظهور الإسلام وانتشاره بين كفار العرب، وفي سنة ٩٩ھ — أي في رأس القرن الثاني — تولَّى الخلافة عمر بن عبد العزيز الأموي المشهور، وفي سنة ١٩٧ بُويِع بالخلافة للمأمون بن هارون الرشيد، وفي أوائل القرن الرابع أسَّس عبد الله المهدي عائلة الفاطميين في أفريقيا، وكانت الأربعون سنة التي مكثها القادر بالله أبو العباس في الخلافة مشتركة بين القرن الرابع والخامس، وفي أوائل القرن السادس ظهر جنكيز خان التتري.
٤ هي مدينة قديمة يونانية بآسيا الصغرى، أصل اسمها «نيكوميدس»، كانت تختًا لمملكة «بوثينيا» واقعة على بحر مرمرة، ويدخل ميناها أكبر السفن، وبها مياه معدنية، ومعامل للحرير، وأُنشِئت منها سكة حديدية تصل إلى بورصة، ويبلغ عدد سكانها أربعين ألف نسمة.
٥ مدينة يونانية قديمة بآسيا الصغرى، أصل اسمها «نيقه»، واقعة شرق مدينة بورصة بنحو ٨٠ كيلومترًا، وهي شهيرة بعمل الخزف والسجاجيد المتقنة.
٦ مدينة بآسيا الصغرى شهيرة بجودة هوائها وجمال مناظرها الطبيعية، وبها مياه عديدة شافية لكثير من الأمراض، ويرحل إليها في زمن الصيف الكثير من الأغنياء لترويح النفوس وإراحة الأبدان.
٧ واسمه بالتركية «أناطولي طاغ» أو «كشيش طاغ»، وهو غير جبل أولمبوس الذي كان يعتقد اليونان أنه مسكن آلهتهم الكائن بتركية أوروبا على حدود بلاد مقدونية.
 
هي مدينة بغداد ولا أزيدك بها علمًا؛ أسَّسَها الخليفة أبو جعفر المنصور — ثاني الخلفاء العباسيين — وشرع في تخطيطها سنة ١٤٥ هجرية، وأتمَّ بناءها سنة ١٤٩ھ، وهي قائمة على ضفتيْ نهر الدجلة. تبعُد عن مصب نهر شط العرب المكون من نهري الدجلة والفرات في الخليج الفارسي بنحو خمسمائة ميل. وقد سمي الجانب الشرقي منها بالرصافة، والغربي بالكرخ، ثم تمت وارتقت في أيام العباسيين، خصوصًا هارون الرشيد والمأمون؛ الذي أنشأ فيها مرصدًا فلكيًّا، وبلغ عدد سكانها سنة ٢١٦ھ نحو مليونين من النفوس.
٢ لمَّا سقطت دولة السلجوقيين تجزَّأت أملاكهم في بلاد الأناضول إلى عشر إمارات صغيرة، وهي قرمسي، وصاروخان، وآيدين، وتكه، والحميد، والقرمان، وكرميان، وقسطموني، ومنتشا، وقونية. ثم ضمت بالفتح إلى مملكة آل عثمان.
٣ من الغريب أنه في رأس كل قرن من الهجرة ظهر رجل كان له شأن في التاريخ الإسلامي؛ ففي رأس القرن الأول كان ظهور الإسلام وانتشاره بين كفار العرب، وفي سنة ٩٩ھ — أي في رأس القرن الثاني — تولَّى الخلافة عمر بن عبد العزيز الأموي المشهور، وفي سنة ١٩٧ بُويِع بالخلافة للمأمون بن هارون الرشيد، وفي أوائل القرن الرابع أسَّس عبد الله المهدي عائلة الفاطميين في أفريقيا، وكانت الأربعون سنة التي مكثها القادر بالله أبو العباس في الخلافة مشتركة بين القرن الرابع والخامس، وفي أوائل القرن السادس ظهر جنكيز خان التتري.
٤ هي مدينة قديمة يونانية بآسيا الصغرى، أصل اسمها «نيكوميدس»، كانت تختًا لمملكة «بوثينيا» واقعة على بحر مرمرة، ويدخل ميناها أكبر السفن، وبها مياه معدنية، ومعامل للحرير، وأُنشِئت منها سكة حديدية تصل إلى بورصة، ويبلغ عدد سكانها أربعين ألف نسمة.
٥ مدينة يونانية قديمة بآسيا الصغرى، أصل اسمها «نيقه»، واقعة شرق مدينة بورصة بنحو ٨٠ كيلومترًا، وهي شهيرة بعمل الخزف والسجاجيد المتقنة.
٦ مدينة بآسيا الصغرى شهيرة بجودة هوائها وجمال مناظرها الطبيعية، وبها مياه عديدة شافية لكثير من الأمراض، ويرحل إليها في زمن الصيف الكثير من الأغنياء لترويح النفوس وإراحة الأبدان.
٧ واسمه بالتركية «أناطولي طاغ» أو «كشيش طاغ»، وهو غير جبل أولمبوس الذي كان يعتقد اليونان أنه مسكن آلهتهم الكائن بتركية أوروبا على حدود بلاد مقدونية.
السلطان الغازي أورخان الأول
وعقب ذلك بقليل استُدعي أورخان إلى والده فوجده في حالة النزع،
ولم يلبث أن أسلم الروح إلى بارئ النسمات ومبدع الكائنات بعد أن أوصى للملك بعده لأورخان
ثاني أولاده المولود في سنة ٦٨٠؛ لاتصافه بعلوِّ الهمة والشجاعة والإقدام، ولم يوصِ بها لبكر أولاده علاء الدين
لميله إلى الورع والعزلة، وتوفي — رحمه الله — في ٢١ رمضان سنة ٧٢٦ هجرية عن سبعين سنة قضى معظمها في تأسيس هذه الدولة الفخيمة الملحوظة بعين العناية الربانية وتوسيع نطاقها، ودفن في مدينة بورصة، وبلغت مدَّة حكمه ٢٧ سنة. ومن حسن حظ هذه الدولة أن علاء الدين لم يعارض في هذه الوصية التي حرمته من ملك عظيم، بل قَبِلَهَا مقدِّمًا الصالح العام على الصالح الخاص، واكتفى بوزارة المملكة — وهي الوظيفة المسماة الآن بالصدارة العظمى — التي قلده إياها أخوه أورخان، فاختص علاء الدين بتدبير الأمور الداخلية، وتفرَّغ أورخان للفتوحات ونشر الراية العثمانية على كل ما وصلت إليه يداه من البلاد المجاورة.

ومن أهمِّ أعمال علاء الدين أن أمر بضرب العملة من الفضة والذهب،
ووضع نظامًا للجيوش المظفرة وجعلها دائمية؛ إذ كانت قبل ذلك لا تجمع إلا وقت الحرب وتصرف بعده،
ثم خشي من تحزب كل فريق من الجند إلى القبيلة التابع إليها وانفصام عرى الوحدة العثمانية التي كان كل سعيهم في إيجادها؛ فأشار عليه أحد فحول ذلك الوقت — واسمه «قره خليل»، وهو الذي صار فيما بعد وزيرًا أوَّلًا باسم خير الدين باشا — بأخذ الشبان من أسرى الحرب، وفصلهم عن كل ما يذكرهم بجنسهم وأصلهم، وتربيتهم تربية إسلامية عثمانية بحيث لا يعرفون أبًا إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله، ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشى من تحزبهم معهم؛ فأعجب السلطان أورخان هذا الرأي وأمر بإنفاذه، ولما صار عنده منهم عدد ليس بقليل سار بهم إلى الحاج بكطاش — شيخ طريقة البكطاشية بأماسية — ليدعو لهم بخير، فدعا لهم هذا الشيخ بالنصر على الأعداء وقال: فليكن اسمهم «يني تشاري»، ويرسم بالتركية هكذا «يكيجاري»؛ أي الجيش الجديد، ثم حُرِّفَ في العربية فصار انكشاري.

ثم ارتقى هذا الجيش في النظام وزاد عدده حتى صار لا يعوَّل إلا عليه في الحروب، وكان هو من أكبر وأهمِّ عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية، كما أنهم خرجوا فيما بعد عن حدودهم وتعدَّوا واستبدوُّا بما جعلهم سببًا في تأخر الدولة وتقهقرها، وكان ضباطهم يلقبون بألقاب غريبة في بابها، ولكنها تدل على أن أولئك الجنود كانوا عائشين من إنعامات السلطان وأنهم كأولاده، فمن ألقابهم شوربجي باشي وعشي باشي وسقا أغاشي وأوده باشي إلى غير ذلك. وهذه الألقاب كانت عندهم بمثابة العنوانات الخاصة بالرتب العسكرية، ثم إنهم كانوا يعظِّمون ويجلون القدور التي كانت تقدَّم إليهم فيها المأكولات، فكان الانكشارية لا يفارقون تلك القدور حتى وقت الحرب، وكانوا يدافعون عنها دفاع الجنود عن أعلامهم حتى كان يعتبر ضياعها في القتال أكبر إهانة تلحق بأصحابها العار والفضيحة. وكانوا إذا أرادوا إظهار عدم الرضا من بعض أوامر رؤسائهم يقلبون القدور أمام منازلهم، واستمرت هذه الفئة عونًا للدولة على أعدائها حتى تغيَّرت أحوالها، وازداد طغيانها، وانقلبت فوائدها مضرات؛ فأبطلها السلطان محمود الثاني بعد أن قتل أغلبهم في يوم ١٦ يونيو سنة ١٨٢٦ (٩ ذي القعدة سنة ١٢٤١م)؛ لمقاومتهم إجراءات السلاطين وعصيانهم عليهم وتعدِّيهم على حقوقهم المقدَّسة.

هذا أما أورخان فأول عمل أجراه هو نقل مقر الحكومة إلى مدينة بورصة لحسن موقعها،
وأرسل قوَّاد جيوشه المظفرة لفتح ما بقي من بلاد آسيا الصغرى؛ ففتحوا أهم مدنها،
وفتح السلطان بنفسه مدينة أزميد، ولم يبقَ من مدن الروم المهمة ببر آسيا إلا مدينة أزنيك،
فحاصرها وضيَّق عليها الحصار حتى دخلها بعد سنتين، فسقط بسقوطها نفوذ الروم في بلاد آسيا.
ومما جذب إليه قلوب الأهالي أنْ عاملهم باللين والرفق ولم يعارضهم في إقامة شعائر دينهم،
وأذن لمن يريد المهاجرة بأخذ كافة منقولاته وبيع عقاراته مع تمام الحرية في إجراءاته،
وأسَّس بهذه المدينة عدَّة مدارس وتكايا للفقراء والمعوزين، وجعل أكبر أولاده المدعو سليمان باشا حاكمًا عليها،

ولم يلبث في هذا المنصب إلا قليلًا حتى عُيِّنَ صدرًا أعظم بعد وفاة عَمِّه علاء الدين، واشتهر سليمان باشا بفتح عدَّة مدن.

وفي سنة ٧٣٦ﻫ (الموافقة سنة ١٣٣٦م) ضم السلطان أورخان إلى ممالكه إمارة قره سي؛
لوقوع الخُلْف بين ولديْ أميرها بعد موته، ولولا عدم اتفاق الأخوين لما تمكَّن أورخان من ضمها إلا بعد معاناة الحرب والكفاح،
وفي ذلك موعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد. وبعد ذلك اشتغل السلطان أورخان بترتيب داخليته
وسنِّ النظامات اللازمة لاستتباب الأمن بالداخل، وانتشار العمران في البلاد، وفتح المدارس،
وبناء الجوامع والتكايا. فمن آثاره أنه أسس مدرسة عالية في مدينة بورصة وأخرى في مدينة أزنيك،
وأجزل العطايا للشعراء والعلماء؛ فأضاف بذلك خيرات السلم إلى فتوحات الحرب.

وبينما هو راتع في بحبوحة الأمن إذ أرسل إليه ملك الروم بالقسطنطينية
واسمه «جان باليولوج» في غضون سنة ١٣٥٥ وفدًا يطلب منه أن يمدَّه بالمساعدة لصدِّ إغارات «دوشان»
ملك الصرب الذي بعد أن جمع تحت سلطانه كافة قبائل الصقالبة الغربية
وفتح بمساعدتهم بلاد البلغار زحف على مدينة القسطنطينية، وعرض ملك الروم على السلطان
أورخان أن يزوِّجه ابنته في مقابلة هذه المساعدة، فأجاب السلطان طلبه وأرسل إليه
عددًا عظيمًا من جنوده لنجدته. لكن فاجأ الموت الملك دوشان قبل وصوله بجيوشه إلى القسطنطينية،
وبذلك تخلَّص الروم من شرِّه، وعاد العثمانيون إلى بلادهم.
ولما نزل العثمانيون بساحل أوروبا تحققوا ضعف مملكة الروم وما آلت إليه من الانحلال؛
فأخذ السلطان أورخان في تجهيز الكتائب سرًّا لاجتياز البحر واحتلال
بعض نقط على الشاطئ الأوروبي تكون مركزًا لأعمال العثمانيين في أوروبا، حتى
إذا سنحت الفرص وساعدت المقادير حاصروا مدينة القسطنطينية برًّا وبحرًا ودخلوها فاتحين.

وفي سنة ١٣٥٧ اجتاز سليمان باشا — أكبر أولاد السلطان أورخان ووليُّ عهده وصدر مملكته الأعظم
— بوغاز الدردنيل ومعه أربعون من أشجع جنوده تحت أستار الظلام، حتى إذا وصلوا إلى الضفة الأخرى قبضوا على ما كان
بها من القوارب وعادوا بها إلى الضفة المعسكرة عليها جيوشهم، فانتقل الجيش إلى ضفة أوروبا،
وكان عدده ثلاثين ألفًا، واحتل ميناء «تزنب»، وساعدتهم المقادير بسقوط جزء من أسوار جاليبولي
عقب زلزال شديد، فدخلها العثمانيون بدون كبير عناء، واحتلوا عدَّة مدائن أخرى منها «أبسالا» و«رودستو» وغيرهما.
وفي سنة ١٣٥٩ توفي سليمان باشا — وليُّ عهد الدولة — بسبب سقوطه من على ظهر جواده،
وصارت ولاية العهد بعده إلى أخيه مراد، وتولى منصب الصدارة بعده الوزير خير الدين باشا الذي سبقت الإشارة إليه.


١ كانت مدينة رومة وما فتحته من الأقاليم المتسعة مشكلة بهيئة جمهورية من ابتداء وجودها إلى سنة ٢٩ قبل المسيح؛ فجعلها القائد الشهير «أكتافيوس» حكومة إمبراطورية، وأطلق على نفسه لقب «أوغسطس»؛ أي السامي القَدْر، واستمرت هذه المملكة إلى سنة ٣٩٥ ميلادية، حيث قسَّمها الإمبراطور طيودوس بين ولديه إلى: مملكة رومانية شرقية، وجعل مقرها مدينة بيزانطة، التي سميت فيما بعد بالقسطنطينية، وأقام عليها ابنه «أركاديوس»، ومملكة رومانية غربية جعل عاصمتها مدينة رومة، وأقام عليها ابنه الثاني «أنوريوس»، ثم انقرضت الدولة الغربية سنة ٤٧٦ ميلادية؛ بسبب إغارة المتبربرين عليها، واستمرت الشرقية إلى أن فتح العثمانيون مدينة القسطنطينية في سنة ١٤٥٣ ميلادية.
٢ هو إسطفن دوشان الملقب بالقوي. ولد بمدينة أشقودرة ببلاد الأرنئود سنة ١٣٠٨، وصار أميرًا لبلاد الصرب وملحقاتها في سنة ١٣٢٢، وكان بعيد الآمال يطمح بنظره إلى تكوين مملكة مؤلفة من جميع الصقالبة لفتح القسطنطينية وبقايا مملكة الروم الشرقية؛ فاتحد مع جمهورية البندقية وباقي الإمارات الصغيرة المجاورة له، وكاد يتمُّ له المقصود لولا أن فاجأته المنية في ٢٠ دسمبر سنة ١٣٥٥ في ابتداء حربه مع الروم؛ فنقلت جثته إلى «برزرند» بالقرب من أشقودرة، حيث دفن في إحدى الكنائس المعتبرة لدى القوم، ومن بعده تشتت شمل هذه المملكة شيئًا فشيئًا وتناوبتها أيدي الفساد؛ حتى أجهز العثمانيون عليها في واقعة «قوص أوه» سنة ١٣٨٩ كما سيجيء.
٣ مما يكسب هذه المدينة أهمية عظمى وقوعها على ضفة بوغاز الدردنيل، الذي هو الممر الوحيد بين بحار أوروبا وبحر مرمرة، وهي تبعد عن مدينة أدرنة بمائة وأربعين كيلومترًا تقريبًا.
 
السلطان الغازي أورخان الأول
وعقب ذلك بقليل استُدعي أورخان إلى والده فوجده في حالة النزع،
ولم يلبث أن أسلم الروح إلى بارئ النسمات ومبدع الكائنات بعد أن أوصى للملك بعده لأورخان
ثاني أولاده المولود في سنة ٦٨٠؛ لاتصافه بعلوِّ الهمة والشجاعة والإقدام، ولم يوصِ بها لبكر أولاده علاء الدين
لميله إلى الورع والعزلة، وتوفي — رحمه الله — في ٢١ رمضان سنة ٧٢٦ هجرية عن سبعين سنة قضى معظمها في تأسيس هذه الدولة الفخيمة الملحوظة بعين العناية الربانية وتوسيع نطاقها، ودفن في مدينة بورصة، وبلغت مدَّة حكمه ٢٧ سنة. ومن حسن حظ هذه الدولة أن علاء الدين لم يعارض في هذه الوصية التي حرمته من ملك عظيم، بل قَبِلَهَا مقدِّمًا الصالح العام على الصالح الخاص، واكتفى بوزارة المملكة — وهي الوظيفة المسماة الآن بالصدارة العظمى — التي قلده إياها أخوه أورخان، فاختص علاء الدين بتدبير الأمور الداخلية، وتفرَّغ أورخان للفتوحات ونشر الراية العثمانية على كل ما وصلت إليه يداه من البلاد المجاورة.

ومن أهمِّ أعمال علاء الدين أن أمر بضرب العملة من الفضة والذهب،
ووضع نظامًا للجيوش المظفرة وجعلها دائمية؛ إذ كانت قبل ذلك لا تجمع إلا وقت الحرب وتصرف بعده،
ثم خشي من تحزب كل فريق من الجند إلى القبيلة التابع إليها وانفصام عرى الوحدة العثمانية التي كان كل سعيهم في إيجادها؛ فأشار عليه أحد فحول ذلك الوقت — واسمه «قره خليل»، وهو الذي صار فيما بعد وزيرًا أوَّلًا باسم خير الدين باشا — بأخذ الشبان من أسرى الحرب، وفصلهم عن كل ما يذكرهم بجنسهم وأصلهم، وتربيتهم تربية إسلامية عثمانية بحيث لا يعرفون أبًا إلا السلطان ولا حرفة إلا الجهاد في سبيل الله، ولعدم وجود أقارب لهم بين الأهالي لا يخشى من تحزبهم معهم؛ فأعجب السلطان أورخان هذا الرأي وأمر بإنفاذه، ولما صار عنده منهم عدد ليس بقليل سار بهم إلى الحاج بكطاش — شيخ طريقة البكطاشية بأماسية — ليدعو لهم بخير، فدعا لهم هذا الشيخ بالنصر على الأعداء وقال: فليكن اسمهم «يني تشاري»، ويرسم بالتركية هكذا «يكيجاري»؛ أي الجيش الجديد، ثم حُرِّفَ في العربية فصار انكشاري.

ثم ارتقى هذا الجيش في النظام وزاد عدده حتى صار لا يعوَّل إلا عليه في الحروب، وكان هو من أكبر وأهمِّ عوامل امتداد سلطة الدولة العثمانية، كما أنهم خرجوا فيما بعد عن حدودهم وتعدَّوا واستبدوُّا بما جعلهم سببًا في تأخر الدولة وتقهقرها، وكان ضباطهم يلقبون بألقاب غريبة في بابها، ولكنها تدل على أن أولئك الجنود كانوا عائشين من إنعامات السلطان وأنهم كأولاده، فمن ألقابهم شوربجي باشي وعشي باشي وسقا أغاشي وأوده باشي إلى غير ذلك. وهذه الألقاب كانت عندهم بمثابة العنوانات الخاصة بالرتب العسكرية، ثم إنهم كانوا يعظِّمون ويجلون القدور التي كانت تقدَّم إليهم فيها المأكولات، فكان الانكشارية لا يفارقون تلك القدور حتى وقت الحرب، وكانوا يدافعون عنها دفاع الجنود عن أعلامهم حتى كان يعتبر ضياعها في القتال أكبر إهانة تلحق بأصحابها العار والفضيحة. وكانوا إذا أرادوا إظهار عدم الرضا من بعض أوامر رؤسائهم يقلبون القدور أمام منازلهم، واستمرت هذه الفئة عونًا للدولة على أعدائها حتى تغيَّرت أحوالها، وازداد طغيانها، وانقلبت فوائدها مضرات؛ فأبطلها السلطان محمود الثاني بعد أن قتل أغلبهم في يوم ١٦ يونيو سنة ١٨٢٦ (٩ ذي القعدة سنة ١٢٤١م)؛ لمقاومتهم إجراءات السلاطين وعصيانهم عليهم وتعدِّيهم على حقوقهم المقدَّسة.

هذا أما أورخان فأول عمل أجراه هو نقل مقر الحكومة إلى مدينة بورصة لحسن موقعها،
وأرسل قوَّاد جيوشه المظفرة لفتح ما بقي من بلاد آسيا الصغرى؛ ففتحوا أهم مدنها،
وفتح السلطان بنفسه مدينة أزميد، ولم يبقَ من مدن الروم المهمة ببر آسيا إلا مدينة أزنيك،
فحاصرها وضيَّق عليها الحصار حتى دخلها بعد سنتين، فسقط بسقوطها نفوذ الروم في بلاد آسيا.
ومما جذب إليه قلوب الأهالي أنْ عاملهم باللين والرفق ولم يعارضهم في إقامة شعائر دينهم،
وأذن لمن يريد المهاجرة بأخذ كافة منقولاته وبيع عقاراته مع تمام الحرية في إجراءاته،
وأسَّس بهذه المدينة عدَّة مدارس وتكايا للفقراء والمعوزين، وجعل أكبر أولاده المدعو سليمان باشا حاكمًا عليها،

ولم يلبث في هذا المنصب إلا قليلًا حتى عُيِّنَ صدرًا أعظم بعد وفاة عَمِّه علاء الدين، واشتهر سليمان باشا بفتح عدَّة مدن.

وفي سنة ٧٣٦ﻫ (الموافقة سنة ١٣٣٦م) ضم السلطان أورخان إلى ممالكه إمارة قره سي؛
لوقوع الخُلْف بين ولديْ أميرها بعد موته، ولولا عدم اتفاق الأخوين لما تمكَّن أورخان من ضمها إلا بعد معاناة الحرب والكفاح،
وفي ذلك موعظة لمن ألقى السمع وهو شهيد. وبعد ذلك اشتغل السلطان أورخان بترتيب داخليته
وسنِّ النظامات اللازمة لاستتباب الأمن بالداخل، وانتشار العمران في البلاد، وفتح المدارس،
وبناء الجوامع والتكايا. فمن آثاره أنه أسس مدرسة عالية في مدينة بورصة وأخرى في مدينة أزنيك،
وأجزل العطايا للشعراء والعلماء؛ فأضاف بذلك خيرات السلم إلى فتوحات الحرب.

وبينما هو راتع في بحبوحة الأمن إذ أرسل إليه ملك الروم بالقسطنطينية
واسمه «جان باليولوج» في غضون سنة ١٣٥٥ وفدًا يطلب منه أن يمدَّه بالمساعدة لصدِّ إغارات «دوشان»
ملك الصرب الذي بعد أن جمع تحت سلطانه كافة قبائل الصقالبة الغربية
وفتح بمساعدتهم بلاد البلغار زحف على مدينة القسطنطينية، وعرض ملك الروم على السلطان
أورخان أن يزوِّجه ابنته في مقابلة هذه المساعدة، فأجاب السلطان طلبه وأرسل إليه
عددًا عظيمًا من جنوده لنجدته. لكن فاجأ الموت الملك دوشان قبل وصوله بجيوشه إلى القسطنطينية،
وبذلك تخلَّص الروم من شرِّه، وعاد العثمانيون إلى بلادهم.
ولما نزل العثمانيون بساحل أوروبا تحققوا ضعف مملكة الروم وما آلت إليه من الانحلال؛
فأخذ السلطان أورخان في تجهيز الكتائب سرًّا لاجتياز البحر واحتلال
بعض نقط على الشاطئ الأوروبي تكون مركزًا لأعمال العثمانيين في أوروبا، حتى
إذا سنحت الفرص وساعدت المقادير حاصروا مدينة القسطنطينية برًّا وبحرًا ودخلوها فاتحين.

وفي سنة ١٣٥٧ اجتاز سليمان باشا — أكبر أولاد السلطان أورخان ووليُّ عهده وصدر مملكته الأعظم
— بوغاز الدردنيل ومعه أربعون من أشجع جنوده تحت أستار الظلام، حتى إذا وصلوا إلى الضفة الأخرى قبضوا على ما كان
بها من القوارب وعادوا بها إلى الضفة المعسكرة عليها جيوشهم، فانتقل الجيش إلى ضفة أوروبا،
وكان عدده ثلاثين ألفًا، واحتل ميناء «تزنب»، وساعدتهم المقادير بسقوط جزء من أسوار جاليبولي
عقب زلزال شديد، فدخلها العثمانيون بدون كبير عناء، واحتلوا عدَّة مدائن أخرى منها «أبسالا» و«رودستو» وغيرهما.
وفي سنة ١٣٥٩ توفي سليمان باشا — وليُّ عهد الدولة — بسبب سقوطه من على ظهر جواده،
وصارت ولاية العهد بعده إلى أخيه مراد، وتولى منصب الصدارة بعده الوزير خير الدين باشا الذي سبقت الإشارة إليه.


١ كانت مدينة رومة وما فتحته من الأقاليم المتسعة مشكلة بهيئة جمهورية من ابتداء وجودها إلى سنة ٢٩ قبل المسيح؛ فجعلها القائد الشهير «أكتافيوس» حكومة إمبراطورية، وأطلق على نفسه لقب «أوغسطس»؛ أي السامي القَدْر، واستمرت هذه المملكة إلى سنة ٣٩٥ ميلادية، حيث قسَّمها الإمبراطور طيودوس بين ولديه إلى: مملكة رومانية شرقية، وجعل مقرها مدينة بيزانطة، التي سميت فيما بعد بالقسطنطينية، وأقام عليها ابنه «أركاديوس»، ومملكة رومانية غربية جعل عاصمتها مدينة رومة، وأقام عليها ابنه الثاني «أنوريوس»، ثم انقرضت الدولة الغربية سنة ٤٧٦ ميلادية؛ بسبب إغارة المتبربرين عليها، واستمرت الشرقية إلى أن فتح العثمانيون مدينة القسطنطينية في سنة ١٤٥٣ ميلادية.
٢ هو إسطفن دوشان الملقب بالقوي. ولد بمدينة أشقودرة ببلاد الأرنئود سنة ١٣٠٨، وصار أميرًا لبلاد الصرب وملحقاتها في سنة ١٣٢٢، وكان بعيد الآمال يطمح بنظره إلى تكوين مملكة مؤلفة من جميع الصقالبة لفتح القسطنطينية وبقايا مملكة الروم الشرقية؛ فاتحد مع جمهورية البندقية وباقي الإمارات الصغيرة المجاورة له، وكاد يتمُّ له المقصود لولا أن فاجأته المنية في ٢٠ دسمبر سنة ١٣٥٥ في ابتداء حربه مع الروم؛ فنقلت جثته إلى «برزرند» بالقرب من أشقودرة، حيث دفن في إحدى الكنائس المعتبرة لدى القوم، ومن بعده تشتت شمل هذه المملكة شيئًا فشيئًا وتناوبتها أيدي الفساد؛ حتى أجهز العثمانيون عليها في واقعة «قوص أوه» سنة ١٣٨٩ كما سيجيء.
٣ مما يكسب هذه المدينة أهمية عظمى وقوعها على ضفة بوغاز الدردنيل، الذي هو الممر الوحيد بين بحار أوروبا وبحر مرمرة، وهي تبعد عن مدينة أدرنة بمائة وأربعين كيلومترًا تقريبًا.

السلطان الغازي مراد خان الأول وواقعة قوص أوه
وفي سنة ٧٦١ﻫ (الموافقة سنة ١٣٦٠م) انتقل إلى الدار الآخرة السلطان أورخان الغازي وسنه ٨١ سنة،
ومدة حكمه ٣٥ سنة، بعد أن أيَّد الدولة بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة وترتيباته المفيدة،
ودفن في مدينة بورصة حيث دفن ملوك آل عثمان الستة الأول. وتولى بعده ابنه
السلطان مراد الأول المولود (سنة ٧٢٦ﻫ)، وكانت فاتحة أعماله احتلال مدينة «أنقرة» مقرِّ سلطنة القرمان،
وذلك أن سلطان هذا الإقليم — واسمه علاء الدين — أراد انتهاز فرصة انتقال الملك من السلطان أورخان إلى ابنه السلطان
مراد لإثارة حمية الأمراء المستقلين وتحريضهم على قتال العثمانيين ليدكُّوا صروح مجدهم
ويقوِّضوا أركان ملكهم الآخذ في الامتداد يومًا فيومًا، فكانت عاقبة دسائسه أن فقد أهمَّ مدائنه.
وبعد ضياعها أبرم الصلح مع السلطان مراد ليحفظ ما بقي له من الأملاك، وزوَّجه ابنته لتمكين عرى الاتحاد بينهما.
أما في أوروبا ففتح البكلر بك «لالة شاهين» مدينة أدرنة١ في سنة ١٣٦١م،
سلمها قائدها الرومي بعد قتال قليل لما داخله من اليأس من استخلاصها. ولأهمية موقعها الجغرافي ووجودها على ملتقى ثلاثة أنهر نقل إليها السلطان تخت المملكة العثمانية، واستمرت عاصمة لها إلى أن فتحت مدينة القسطنطينية سنة ١٤٥٣م. وفتح أيضًا مدينة «فيلبه»٢ عاصمة الرومللي الشرقية. وفتح القائد «أفرينوس بك» مدينتي «وردار» و«كلجمينا» باسم سلطان العثمانيين، وبذلك صارت مدينة القسطنطينية محاطة من جهة أوروبا بأملاك آل عثمان، وفصلت عن باقي الإمارات المسيحية الصغيرة التي كانت شبه جزيرة البلقان مجزَّأة بينها، وصارت الدولة العلية متاخمة لإمارات الصرب والبلغار وألبانيا المستقلة.
فاضطرب لذلك الملوك المسيحيون المجاورون للدولة العلية، وطلبوا من البابا «أوربانوس» الخامس أن يتوسط لدى ملوك أوروبا الغربيين ليساعدوهم على محاربة المسلمين وإخراجهم من أوروبا؛ خوفًا من امتداد فتوحاتهم إلى ما وراء جبال البلقان؛ إذ لو اجتازوها بدون معارضة ومقاومة في مضايقها لم يقوَ أحد بعد ذلك على إيقاف تيار فتوحاتهم، ويخشى بعدها على جميع ممالك أوروبا من العثمانيين. فلبى البابا استغاثتهم، وكتب لجميع الملوك بالتأهب لمحاربة المسلمين، وحرَّضهم على محاربتهم محاربةً دينية حفظًا للدين المسيحي من الفتوحات الإسلامية.
لكن لم ينتظر «أوروك» الخامس — الذي عين ملكًا على الصرب بعد «دوشان» القوي — وصول المدد إليه من أوروبا، ب
ل استعان بأمراء بوسنة والفلاخ وبعدد عظيم من فرسان المجر، وسار بهم لمهاجمة مدينة «أدرنة» — عاصمة الممالك العثمانية — معللين النفس بالانتصار على العثمانيين، ومؤمِّلين النصر عليهم؛ لاشتغال الملك مراد بمحاصرة مدينة «بيجا» بالقرب من بورصة بآسيا الصغرى. فلما وصل خبر تقدُّمهم إلى آذان العثمانيين قابلوهم على شاطئ نهر «ماريتزا»، وفاجئوهم في ليلة مظلمة بقوَّة عظيمة ألقت الرعب في قلوبهم وأوقعتهم في حيص بيص، ولم يلبثوا إلا قليلًا حتى ولَّوا الأدبار تاركين الثرى مخضَّبًا بدمائهم. وكان ذلك في سنة ٨٦٦ﻫ (سنة ١٣٦٣م).
أما السلطان مراد فكان في هذه الأثناء مشتغلًا بالقتال في بلاد آسيا الصغرى، حيث فتح عدَّة مدن ثم عاد إلى مقرِّ سلطنته لتنظيم ما فتحه من الأقاليم والبلدان كما هو شأن الفاتح الحكيم الذي لا يكتفي بفتح البلاد وضرب الذلة والمسكنة على سكانها، بل كان ينسج على منوال أبيه وجدِّه؛ أي يستريح بضع سنين من عناء الفتح ليرتِّب جيوشه ويكمل من نقص منها مستشهدًا في ساحة النصر. ولما عظم شأن الدولة خشيها مجاوروها؛ خصوصًا الضعفاء منهم، فأرسلت جمهورية «راجوزه» في سنة ١٣٦٥ إلى السلطان مراد رسلًا أمضوا معه معاهدة ودِّية وتجارية تعهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها ٥٠٠ دوكا ذهبًا، وهذه أول معاهدة أمضيت بين العثمانيين والدول المسيحية. وفي سنة ١٣٧٩م اتحد «لازارجر بلينانوفتش»، الذي تربَّع على تخت مملكة الصرب بعد قتل «أوروك» مع «سيسمان» — أمير البلغار — على مقاتلة العثمانين ومحاربتهم، لكنهما بعد عدَّة مناوشات خفيفة تحقَّقَا في خلالها عجزهما عن مكافحة العساكر الإسلامية، أبرما الصلح مع السلطان على أن يتزوَّج السلطان بنت أمير البلغار، وعلى أن يدفع له الأميران خراجًا سنويًّا معينًا.
ولما توفي «البكلر بك» لاله شاهين عين محله ديمورطاش باشا. وينسب إلى هذا الوزير تنظيم فرق الخيالة العثمانيين المسماة «سيباه» على نظام جديد، واختار أن تكون أعلامهم باللون الأحمر الذي لا يزال شعار الدولة العثمانية حتى الآن، وأقطَعَ كل نفر منهم جزءًا من الأرض يزرعه أصحابه الأصليون — مسيحيين كانوا أو مسلمين — في مقابلة دفع جعل معين لصاحب الإقطاع، وذلك بشرط أن يسكن الجندي في أرضه وقت السلم ويستعدَّ للحرب عند الاقتضاء على نفقته، وأن يقدم أيضًا جنديًّا آخر معه، وكان كل إقطاع لم يتجاوز إيراده السنوي عشرين ألف غرش يسمَّى تيمارا، وما زاد إيراده على ذلك يسمى «زعامت». وكانت هذه الإقطاعات لا يرثها إلا الذكور من الأعقاب، وإذا انقرضت الذرِّية الذكور ترجع إلى الحكومة، وهي تقطعها إلى جندي آخر بنفس هذه الشروط.
ولأجل أن يكون للسلطان مراد حلفاء بين من بقي مستقلًّا من أمراء آسيا الصغرى زوَّج ولده «بايزيد» الملقب بيلدرم (أي البرق) بنت أمير كرميان. وهو قدَّم للسلطان مدينة «كوتاهيه» الشهيرة بصفة مهر لابنته كما هي عادة الإفرنج الآن. وفي ابتداء سنة ١٣٨١م ابتدأت الفتوحات ثانيًا وأخذت سيرها الأوَّل، فألزم السلطان أمير إقليم «الحميد» بالتنازل له عن بلاده، وحارب ديمورطاش باشا الصرب والبلغار لتأخيرهما في دفع الخراج المتفق عليه، وفتح مدائن «موناستر» و«برلبه» و«استيب»، ووقعت مدينة صوفيا٣ في قبضة العثمانيين بعد محاصرة استمرَّت ثلاث سنوات من سنة ١٣٨١م إلى سنة ١٣٨٣م. وعقب ذلك فتح الصدر الأعظم خير الدين باشا مدينة سلانيك الشهيرة.٤ وفي هذه الأثناء تمرَّد صاووجي — أحد أولاد السلطان — على والده بالاتحاد مع أندرونيكوس ابن إمبراطور الروم حنا باليولوج الذي كان والده حرمه من الملك بعده وأوصى به إلى ابنه الأصغر أمانويل، وتحزَّب معهما بعض من أضلهم الطمع والغرور غير ناظرين إلى أن هذا الشقاق الداخلي لا يكون وراءه إلا ضعف الدولة وتمكُّن أعدائها من الاستظهار عليها. لكن لم يدع السلطان الشفقة الوالدية تتغلب عليه، بل أرسل لمحاربة ولده المتمرِّد من قهره هو ومحاربيه وقتله وجميع من حازبه من أشراف الروم، وطلب من ملك الروم قتل ابنه ففقأ عينيه ونفاه حتى مات.٥
ولما مات القائد خير الدين باشا — أشهر قوَّاد الدولة — ظنَّ متاخموها أنه لم يبقَ لديها من القوَّاد من يردُّ كيدهم في نحرهم، فاتَّحَد علاء الدين — أمير القرمان الذي سبق ذكره — مع بعض الأمراء المستقلين، واستعدوا للقتال، وابتدءوا المناوشات. لكن لم يمهلهم السلطان مراد، بل أرسل إليهم ديمورطاش باشا فحاربهم وقهرهم في سهل قونية، وأخذ علاء الدين أسيرًا، ولولا توسط ابنته التي كان تزوجها السلطان مراد عقب المحاربة الأولى لجرَّده من أملاكه، ولكن مراعاة لزوجته لم يأخذ منه شيئًا هذه الدفعة، بل أقره في أملاكه بشرط دفع الجزية، وكان ذلك سنة ١٣٨٦م.
أما في أوروبا فاتخذ الصرب وجود أعظم قواد السلطنة وجيوشها بالأناطول فرصة لمحاربة العساكر العثمانية، ففاز الصرب أولًا في سنة ١٣٨٧م، وكان سيسمان قرال — أي أمير البلغار — يتأهَّب للانضمام إلى «لازار» — ملك الصرب — إذ فاجأ الوزير علي باشا جيوش البلغار واحتل «ترنوه» و«شومله»، وألجأ سيسمان إلى الفرار والاحتماء في مدينة نيكوبلي٦ سنة ١٣٨٨. وبعد أن جمع شمل ما بقي من جيوشه داخل هذه المدينة، أراد محاربة العثمانيين ثانية فخرج من «نيكوبلي» وهاجم الجيوش الإسلامية مهاجمة يائس؛ فانهزم هزيمة لم يقم له بعدها قائمة ووقع أسيرًا، فضم السلطان مراد نصف بلاده إليه ولم يأمر بقتله، بل منحه نعمة الحياة ورتَّب له ما يقوم بمعاشه مراعيًا في ذلك مقامه السابق، وعيَّنه حاكمًا شبه مستقل على النصف الباقي ١٣٨٩م.
ولما علم لازار — ملك الصرب — بانخذال رفيقه قرال البلغار مال بجيوشه قليلًا جهة الغرب للانضمام إلى أمراء ألبانيا (الأرنئود)، فلم يمكنه السلطان مراد من ذلك، بل جَدَّ السير في طلبه حتى لحقه في سهل «قوص أوه» سنة ١٣٨٩م، وانتشب القتال بين الجيشين بحالة يشيب من هولها الولدان، دافع في خلاله الصربيون دفاعَ الأبطال. وبقيت الحرب بينهما سجالًا مدة من الزمن تناثرت فيها الرءوس وزُهِقَت النفوس، وأخيرًا فرَّ صهر الملك لازار المدعو «فوك برانكوفتش» ومعه عشرة آلاف فارس والتحق بجيش المسلمين؛ فدارت الدائرة على الصربيين، وجرح لازار ووقع أسيرًا في أيدي العثمانيين فقتلوه. وبهذه الواقعة المهمة التي بقي ذكرها شهيرًا في أوروبا بأسرها زال استقلال الصرب، كما فقدت البلغار والرومللي والأناطول استقلالها من قبل، وكما ستفقد اليونان وغيرها الاستقلال فيما بعد.
وبعد تمام النصر والغلبة للعثمانيين كان السلطان مراد يمرُّ من بين القتلى إذ قام من بينهم جندي صربي اسمه «ميلوك كوبلوفتش» وطعن السلطان بخنجر طعنة كانت هي القاضية عليه بعد قليل، فسقط القاتل قتيلًا تحت سيوف الانكشارية، لكن لم يفدهم قتله شيئًا؛ إذ أسلم السلطان الروح بعد ذلك بقليل بعد أن ضم كثيرًا من البلاد إلى ما تركه له والده السلطان أورخان مما مر بيانه، وكانت وفاته في ١٥ شعبان سنة ٧٩١ﻫ (٨ أكتوبر سنة ١٣٨٨م) عن خمس وستين سنة، وبلغت مدَّة حكمه ثلاثين سنة، ونقلت جثته إلى مدينة بورصة.

١ واسمها بالرومية «أدريانا بوليس»؛ نسبة للإمبراطور أدريان الرومي الذي أجرى فيها عدة تحسينات أوجبت إطلاق اسمه عليها، وتوفي الإمبراطور سنة ١٣٨م.
٢ اسمها بالرومية فيليبو بوليس؛ أي مدينة فيليب؛ نسبة لمؤسسها فيليب والد الإسكندر الأكبر.
٣ هي عاصمة إمارة البلغار الآن، ويبلغ عدد سكانها خمسين ألف نسمة.
٤ مدينة رومية قديمة جدًّا واقعة في جنوب بلاد مقدونية على بحر الأرخبيل، كان اسمها «ترما»، ثم لمَّا تولى «كساندر» المتوفى سنة ٢٩٨ قبل المسيح ملكًا على بلاد مقدونية؛ أطلق عليها اسم زوجته أخت إسكندر الكبير المسماة «تسالونيك»، وحُرِّف هذا الاسم على ممر الأجيال فصار سالونيك أو سلانيك، ويبتدئ منها الآن طريق حديدي يصل إلى الصرب ومنها إلى جميع أوروبا.
٥ لا يظن القارئ أن العثمانيين انفردوا بارتكاب هذا الإثم الجسيم؛ فإن من يتصفَّح التاريخ يعلم أن كثيرًا من الملوك حاكموا أولادهم وقتلوهم لمَّا تثبت عليهم خيانة الأمة والدولة؛ فقد سجن بطرس الأكبر الروسي وليَّ عهده ألكسيس، ولما تأكد جنايته وعدم استعداده للقيام بأعباء المملكة بعده جمع مجلسًا عاليًا مركبًا من أهم رجال الدولة، وحكم عليه هذا المجلس بالإعدام، لكن لم ينفذ عليه الحكم جهارًا، بل وجد ميتًا في سجنه في صبيحة اليوم المحدد لتنفيذ الحكم عليه، ولم تعلم كيفية موته بالضبط، لكن من المؤكد أن موته كان بإيعاز والده كيْ لا يشنق أمام الأمة.
٦ اسمها بالرومية نيكوبوليس، ومعناها مدينة النصر، أسَّسَها الإمبراطور الروماني تراجانوس المتوفى سنة ١١٧ بعد المسيح عقب انتصاره على أعدائه.
 
السلطان الغازي مراد خان الأول وواقعة قوص أوه
وفي سنة ٧٦١ﻫ (الموافقة سنة ١٣٦٠م) انتقل إلى الدار الآخرة السلطان أورخان الغازي وسنه ٨١ سنة،
ومدة حكمه ٣٥ سنة، بعد أن أيَّد الدولة بفتوحاته الجديدة وتنظيماته العديدة وترتيباته المفيدة،
ودفن في مدينة بورصة حيث دفن ملوك آل عثمان الستة الأول. وتولى بعده ابنه
السلطان مراد الأول المولود (سنة ٧٢٦ﻫ)، وكانت فاتحة أعماله احتلال مدينة «أنقرة» مقرِّ سلطنة القرمان،
وذلك أن سلطان هذا الإقليم — واسمه علاء الدين — أراد انتهاز فرصة انتقال الملك من السلطان أورخان إلى ابنه السلطان
مراد لإثارة حمية الأمراء المستقلين وتحريضهم على قتال العثمانيين ليدكُّوا صروح مجدهم
ويقوِّضوا أركان ملكهم الآخذ في الامتداد يومًا فيومًا، فكانت عاقبة دسائسه أن فقد أهمَّ مدائنه.
وبعد ضياعها أبرم الصلح مع السلطان مراد ليحفظ ما بقي له من الأملاك، وزوَّجه ابنته لتمكين عرى الاتحاد بينهما.
أما في أوروبا ففتح البكلر بك «لالة شاهين» مدينة أدرنة١ في سنة ١٣٦١م،
سلمها قائدها الرومي بعد قتال قليل لما داخله من اليأس من استخلاصها. ولأهمية موقعها الجغرافي ووجودها على ملتقى ثلاثة أنهر نقل إليها السلطان تخت المملكة العثمانية، واستمرت عاصمة لها إلى أن فتحت مدينة القسطنطينية سنة ١٤٥٣م. وفتح أيضًا مدينة «فيلبه»٢ عاصمة الرومللي الشرقية. وفتح القائد «أفرينوس بك» مدينتي «وردار» و«كلجمينا» باسم سلطان العثمانيين، وبذلك صارت مدينة القسطنطينية محاطة من جهة أوروبا بأملاك آل عثمان، وفصلت عن باقي الإمارات المسيحية الصغيرة التي كانت شبه جزيرة البلقان مجزَّأة بينها، وصارت الدولة العلية متاخمة لإمارات الصرب والبلغار وألبانيا المستقلة.
فاضطرب لذلك الملوك المسيحيون المجاورون للدولة العلية، وطلبوا من البابا «أوربانوس» الخامس أن يتوسط لدى ملوك أوروبا الغربيين ليساعدوهم على محاربة المسلمين وإخراجهم من أوروبا؛ خوفًا من امتداد فتوحاتهم إلى ما وراء جبال البلقان؛ إذ لو اجتازوها بدون معارضة ومقاومة في مضايقها لم يقوَ أحد بعد ذلك على إيقاف تيار فتوحاتهم، ويخشى بعدها على جميع ممالك أوروبا من العثمانيين. فلبى البابا استغاثتهم، وكتب لجميع الملوك بالتأهب لمحاربة المسلمين، وحرَّضهم على محاربتهم محاربةً دينية حفظًا للدين المسيحي من الفتوحات الإسلامية.
لكن لم ينتظر «أوروك» الخامس — الذي عين ملكًا على الصرب بعد «دوشان» القوي — وصول المدد إليه من أوروبا، ب
ل استعان بأمراء بوسنة والفلاخ وبعدد عظيم من فرسان المجر، وسار بهم لمهاجمة مدينة «أدرنة» — عاصمة الممالك العثمانية — معللين النفس بالانتصار على العثمانيين، ومؤمِّلين النصر عليهم؛ لاشتغال الملك مراد بمحاصرة مدينة «بيجا» بالقرب من بورصة بآسيا الصغرى. فلما وصل خبر تقدُّمهم إلى آذان العثمانيين قابلوهم على شاطئ نهر «ماريتزا»، وفاجئوهم في ليلة مظلمة بقوَّة عظيمة ألقت الرعب في قلوبهم وأوقعتهم في حيص بيص، ولم يلبثوا إلا قليلًا حتى ولَّوا الأدبار تاركين الثرى مخضَّبًا بدمائهم. وكان ذلك في سنة ٨٦٦ﻫ (سنة ١٣٦٣م).
أما السلطان مراد فكان في هذه الأثناء مشتغلًا بالقتال في بلاد آسيا الصغرى، حيث فتح عدَّة مدن ثم عاد إلى مقرِّ سلطنته لتنظيم ما فتحه من الأقاليم والبلدان كما هو شأن الفاتح الحكيم الذي لا يكتفي بفتح البلاد وضرب الذلة والمسكنة على سكانها، بل كان ينسج على منوال أبيه وجدِّه؛ أي يستريح بضع سنين من عناء الفتح ليرتِّب جيوشه ويكمل من نقص منها مستشهدًا في ساحة النصر. ولما عظم شأن الدولة خشيها مجاوروها؛ خصوصًا الضعفاء منهم، فأرسلت جمهورية «راجوزه» في سنة ١٣٦٥ إلى السلطان مراد رسلًا أمضوا معه معاهدة ودِّية وتجارية تعهدوا فيها بدفع جزية سنوية قدرها ٥٠٠ دوكا ذهبًا، وهذه أول معاهدة أمضيت بين العثمانيين والدول المسيحية. وفي سنة ١٣٧٩م اتحد «لازارجر بلينانوفتش»، الذي تربَّع على تخت مملكة الصرب بعد قتل «أوروك» مع «سيسمان» — أمير البلغار — على مقاتلة العثمانين ومحاربتهم، لكنهما بعد عدَّة مناوشات خفيفة تحقَّقَا في خلالها عجزهما عن مكافحة العساكر الإسلامية، أبرما الصلح مع السلطان على أن يتزوَّج السلطان بنت أمير البلغار، وعلى أن يدفع له الأميران خراجًا سنويًّا معينًا.
ولما توفي «البكلر بك» لاله شاهين عين محله ديمورطاش باشا. وينسب إلى هذا الوزير تنظيم فرق الخيالة العثمانيين المسماة «سيباه» على نظام جديد، واختار أن تكون أعلامهم باللون الأحمر الذي لا يزال شعار الدولة العثمانية حتى الآن، وأقطَعَ كل نفر منهم جزءًا من الأرض يزرعه أصحابه الأصليون — مسيحيين كانوا أو مسلمين — في مقابلة دفع جعل معين لصاحب الإقطاع، وذلك بشرط أن يسكن الجندي في أرضه وقت السلم ويستعدَّ للحرب عند الاقتضاء على نفقته، وأن يقدم أيضًا جنديًّا آخر معه، وكان كل إقطاع لم يتجاوز إيراده السنوي عشرين ألف غرش يسمَّى تيمارا، وما زاد إيراده على ذلك يسمى «زعامت». وكانت هذه الإقطاعات لا يرثها إلا الذكور من الأعقاب، وإذا انقرضت الذرِّية الذكور ترجع إلى الحكومة، وهي تقطعها إلى جندي آخر بنفس هذه الشروط.
ولأجل أن يكون للسلطان مراد حلفاء بين من بقي مستقلًّا من أمراء آسيا الصغرى زوَّج ولده «بايزيد» الملقب بيلدرم (أي البرق) بنت أمير كرميان. وهو قدَّم للسلطان مدينة «كوتاهيه» الشهيرة بصفة مهر لابنته كما هي عادة الإفرنج الآن. وفي ابتداء سنة ١٣٨١م ابتدأت الفتوحات ثانيًا وأخذت سيرها الأوَّل، فألزم السلطان أمير إقليم «الحميد» بالتنازل له عن بلاده، وحارب ديمورطاش باشا الصرب والبلغار لتأخيرهما في دفع الخراج المتفق عليه، وفتح مدائن «موناستر» و«برلبه» و«استيب»، ووقعت مدينة صوفيا٣ في قبضة العثمانيين بعد محاصرة استمرَّت ثلاث سنوات من سنة ١٣٨١م إلى سنة ١٣٨٣م. وعقب ذلك فتح الصدر الأعظم خير الدين باشا مدينة سلانيك الشهيرة.٤ وفي هذه الأثناء تمرَّد صاووجي — أحد أولاد السلطان — على والده بالاتحاد مع أندرونيكوس ابن إمبراطور الروم حنا باليولوج الذي كان والده حرمه من الملك بعده وأوصى به إلى ابنه الأصغر أمانويل، وتحزَّب معهما بعض من أضلهم الطمع والغرور غير ناظرين إلى أن هذا الشقاق الداخلي لا يكون وراءه إلا ضعف الدولة وتمكُّن أعدائها من الاستظهار عليها. لكن لم يدع السلطان الشفقة الوالدية تتغلب عليه، بل أرسل لمحاربة ولده المتمرِّد من قهره هو ومحاربيه وقتله وجميع من حازبه من أشراف الروم، وطلب من ملك الروم قتل ابنه ففقأ عينيه ونفاه حتى مات.٥
ولما مات القائد خير الدين باشا — أشهر قوَّاد الدولة — ظنَّ متاخموها أنه لم يبقَ لديها من القوَّاد من يردُّ كيدهم في نحرهم، فاتَّحَد علاء الدين — أمير القرمان الذي سبق ذكره — مع بعض الأمراء المستقلين، واستعدوا للقتال، وابتدءوا المناوشات. لكن لم يمهلهم السلطان مراد، بل أرسل إليهم ديمورطاش باشا فحاربهم وقهرهم في سهل قونية، وأخذ علاء الدين أسيرًا، ولولا توسط ابنته التي كان تزوجها السلطان مراد عقب المحاربة الأولى لجرَّده من أملاكه، ولكن مراعاة لزوجته لم يأخذ منه شيئًا هذه الدفعة، بل أقره في أملاكه بشرط دفع الجزية، وكان ذلك سنة ١٣٨٦م.
أما في أوروبا فاتخذ الصرب وجود أعظم قواد السلطنة وجيوشها بالأناطول فرصة لمحاربة العساكر العثمانية، ففاز الصرب أولًا في سنة ١٣٨٧م، وكان سيسمان قرال — أي أمير البلغار — يتأهَّب للانضمام إلى «لازار» — ملك الصرب — إذ فاجأ الوزير علي باشا جيوش البلغار واحتل «ترنوه» و«شومله»، وألجأ سيسمان إلى الفرار والاحتماء في مدينة نيكوبلي٦ سنة ١٣٨٨. وبعد أن جمع شمل ما بقي من جيوشه داخل هذه المدينة، أراد محاربة العثمانيين ثانية فخرج من «نيكوبلي» وهاجم الجيوش الإسلامية مهاجمة يائس؛ فانهزم هزيمة لم يقم له بعدها قائمة ووقع أسيرًا، فضم السلطان مراد نصف بلاده إليه ولم يأمر بقتله، بل منحه نعمة الحياة ورتَّب له ما يقوم بمعاشه مراعيًا في ذلك مقامه السابق، وعيَّنه حاكمًا شبه مستقل على النصف الباقي ١٣٨٩م.
ولما علم لازار — ملك الصرب — بانخذال رفيقه قرال البلغار مال بجيوشه قليلًا جهة الغرب للانضمام إلى أمراء ألبانيا (الأرنئود)، فلم يمكنه السلطان مراد من ذلك، بل جَدَّ السير في طلبه حتى لحقه في سهل «قوص أوه» سنة ١٣٨٩م، وانتشب القتال بين الجيشين بحالة يشيب من هولها الولدان، دافع في خلاله الصربيون دفاعَ الأبطال. وبقيت الحرب بينهما سجالًا مدة من الزمن تناثرت فيها الرءوس وزُهِقَت النفوس، وأخيرًا فرَّ صهر الملك لازار المدعو «فوك برانكوفتش» ومعه عشرة آلاف فارس والتحق بجيش المسلمين؛ فدارت الدائرة على الصربيين، وجرح لازار ووقع أسيرًا في أيدي العثمانيين فقتلوه. وبهذه الواقعة المهمة التي بقي ذكرها شهيرًا في أوروبا بأسرها زال استقلال الصرب، كما فقدت البلغار والرومللي والأناطول استقلالها من قبل، وكما ستفقد اليونان وغيرها الاستقلال فيما بعد.
وبعد تمام النصر والغلبة للعثمانيين كان السلطان مراد يمرُّ من بين القتلى إذ قام من بينهم جندي صربي اسمه «ميلوك كوبلوفتش» وطعن السلطان بخنجر طعنة كانت هي القاضية عليه بعد قليل، فسقط القاتل قتيلًا تحت سيوف الانكشارية، لكن لم يفدهم قتله شيئًا؛ إذ أسلم السلطان الروح بعد ذلك بقليل بعد أن ضم كثيرًا من البلاد إلى ما تركه له والده السلطان أورخان مما مر بيانه، وكانت وفاته في ١٥ شعبان سنة ٧٩١ﻫ (٨ أكتوبر سنة ١٣٨٨م) عن خمس وستين سنة، وبلغت مدَّة حكمه ثلاثين سنة، ونقلت جثته إلى مدينة بورصة.

١ واسمها بالرومية «أدريانا بوليس»؛ نسبة للإمبراطور أدريان الرومي الذي أجرى فيها عدة تحسينات أوجبت إطلاق اسمه عليها، وتوفي الإمبراطور سنة ١٣٨م.
٢ اسمها بالرومية فيليبو بوليس؛ أي مدينة فيليب؛ نسبة لمؤسسها فيليب والد الإسكندر الأكبر.
٣ هي عاصمة إمارة البلغار الآن، ويبلغ عدد سكانها خمسين ألف نسمة.
٤ مدينة رومية قديمة جدًّا واقعة في جنوب بلاد مقدونية على بحر الأرخبيل، كان اسمها «ترما»، ثم لمَّا تولى «كساندر» المتوفى سنة ٢٩٨ قبل المسيح ملكًا على بلاد مقدونية؛ أطلق عليها اسم زوجته أخت إسكندر الكبير المسماة «تسالونيك»، وحُرِّف هذا الاسم على ممر الأجيال فصار سالونيك أو سلانيك، ويبتدئ منها الآن طريق حديدي يصل إلى الصرب ومنها إلى جميع أوروبا.
٥ لا يظن القارئ أن العثمانيين انفردوا بارتكاب هذا الإثم الجسيم؛ فإن من يتصفَّح التاريخ يعلم أن كثيرًا من الملوك حاكموا أولادهم وقتلوهم لمَّا تثبت عليهم خيانة الأمة والدولة؛ فقد سجن بطرس الأكبر الروسي وليَّ عهده ألكسيس، ولما تأكد جنايته وعدم استعداده للقيام بأعباء المملكة بعده جمع مجلسًا عاليًا مركبًا من أهم رجال الدولة، وحكم عليه هذا المجلس بالإعدام، لكن لم ينفذ عليه الحكم جهارًا، بل وجد ميتًا في سجنه في صبيحة اليوم المحدد لتنفيذ الحكم عليه، ولم تعلم كيفية موته بالضبط، لكن من المؤكد أن موته كان بإيعاز والده كيْ لا يشنق أمام الأمة.
٦ اسمها بالرومية نيكوبوليس، ومعناها مدينة النصر، أسَّسَها الإمبراطور الروماني تراجانوس المتوفى سنة ١١٧ بعد المسيح عقب انتصاره على أعدائه.
السلطان الغازي بايزيد خان الأول


وتولى بعده السلطان بايزيد خان الأول بِكْرُ أولاده، وكانت ولادته سنة ٧٦١ هجرية (الموافقة سنة ١٣٦٠م)، اتفق أركان الدولة على توليته. وكان له أخ أصغر منه بقليل يدعى يعقوب متصفًا بالشجاعة والإقدام وعلوِّ الهمة فخيف على المملكة منه، من أن يدَّعي الملك ويرتكن على أن الملك انتقل إلى السلطان أورخان بعد وفاة أبيه السلطان عثمان، ولم يتولَّ بعده ابنه البكر علاء الدين، ولذلك قتل باتفاق أمراء الدولة وقواد جيوشها، وادعى مؤرخو الإفرنج أن قتله كان بناءً على فتوى شرعية أفتى بها علماء ذلك الزمان منعًا لحصول الفتنة بناءً على قوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.
وابتدأ السلطان بايزيد الأول أعماله بأن ولى الأمير «إسطفن» بن لازار — ملك الصرب — حاكمًا عليها وتزوج أخته «أوليفيرا»، وأجازه بأن يحكم بلاده على حسب قوانينهم بشرط دفع جزية معينة وتقديم عدد معين من الجنود ينضمون إلى الجيوش الشاهانية وقت الحرب، وفعل ذلك ولم يضمَّ بلاد الصرب إلى أملاكه ويجعلها ولاية كباقي الولايات ليسكن بالُ الصربيين حتى لا يكونوا شغلًا شاغلًا له؛ نظرًا لشهامتهم وحبهم الاستقلال. ولما ساد الأمن في أوروبا قصد بلاد آسيا وفتح مدينة «آلاشهر» المعروفة عند الإفرنج باسم «فيلادلفيا» سنة ١٣٩١م، وهي آخر مدينة بقيت للروم في آسيا، وهابه أمير «آيدين»، فترك له أملاكه وعاش مطمئن الخاطر في إحدى المدن الخارجة عن النفود العثماني، وكذلك ترك أميرا منتشا وصاروخان ولايتيهما واحتميا عند أمير «قسطموني».

وتنازل الأمير علاء الدين — حاكم بلاد القرمان — للسلطان عن جزء عظيم من أملاكه ليؤمِّنه على الباقي.

وبعد هذه الفتوحات التي تَمَّ أغلبها بدون حرب عاد السلطان إلى أوروبا وحارب «إمانويل باليولوج» — ملك الروم — وحاصره في القسطنطينية، وبعد أن ضيَّق عليها الحصار ترك حولها جيشًا جرارًا وسافر لغزو بلاد الفلاخ؛ فقهر أميرها المدعو «دوك مانيس»، وأكرهه على التوقيع على معاهدة يعترف فيها بسيادة الدولة العلية العثمانية على بلاده، ويتعهَّد لها بدفع جزية سنوية مع بقاء بلاده له يحكمها بمقتضى عوائد وقوانين أهلها، وتم ذلك في سنة ١٣٩٣م.

وفي أثناء اشتغال السلطان بمحاربة الفلاخ أراد علاء الدين — أمير القرمان — أن يستردَّ ما تنازل عنه للدولة العلية؛ فجهز جيشًا عظيمًا، واستعان ببعض مجاوريه، وسار بخيله ورجله قاصدًا مهاجمة مدينة أنقرة بعد أن فاز على ديمورطاش باشا في إحدى الوقائع وأخذه أسيرًا. فلما بلغ خبره إلى مسامع السلطان قام بنفسه إلى بلاد الأناطول وجدَّ في طلب علاء الدين حتى تقابل الجيشان في موضع يقال له «آق جاي»، فهزمه السلطان بايزيد وأسره هو وولديه محمدًا وعليًّا، وضم ما بقي من أملاكه إليه. وبذلك انمحت سلطنة القرمان وصارت ولاية عثمانية، ثم فتحت إمارات سيواس وتوقات، وكان آخر أمرائها يدعى الغازي برهان الدين.

وبذا لم يبقَ من الإمارات التي قامت على أطلال دولة آل سلجوق إلا إمارة قسطموني خارجة عن أملاك الدولة العثمانية، وكان أميرها يسمى بايزيد أيضًا، واحتمى ببلاده كثير من أولاد الأمراء الذين فتحت بلادهم؛ فكان ذلك سبب غزو بلاده، وذلك أن السلطان أرسل إليه من يطلب منه تسليم أولاد صاحب آيدين وصاروخان فامتنع، فسار إليه السلطان بايزيد بنفسه وأغار على بلاده، وفتح مدائن ساسون وجانك وعثمانجق. وبذلك انقرضت جميع الإمارات الصغيرة القائمة ببلاد الأناطول، وصار العَلَم العثماني يخفق منصورًا فوق صروحها، أما بايزيد — صاحب قسطموني — فلجأ إلى تيمورلنك سلطان الموغول.١
ومع استمرار الحصار حول القسطنطينية ضم السلطان بلاد البلغار إلى الأملاك العثمانية؛ فصارت ولاية عثمانية كباقي الولايات بعد أن قتل أميرها «سيسمان» وأسلم ابنه وعين حاكمًا لسمسون سنة ١٣٩٤م.
 
السلطان الغازي بايزيد خان الأول


وتولى بعده السلطان بايزيد خان الأول بِكْرُ أولاده، وكانت ولادته سنة ٧٦١ هجرية (الموافقة سنة ١٣٦٠م)، اتفق أركان الدولة على توليته. وكان له أخ أصغر منه بقليل يدعى يعقوب متصفًا بالشجاعة والإقدام وعلوِّ الهمة فخيف على المملكة منه، من أن يدَّعي الملك ويرتكن على أن الملك انتقل إلى السلطان أورخان بعد وفاة أبيه السلطان عثمان، ولم يتولَّ بعده ابنه البكر علاء الدين، ولذلك قتل باتفاق أمراء الدولة وقواد جيوشها، وادعى مؤرخو الإفرنج أن قتله كان بناءً على فتوى شرعية أفتى بها علماء ذلك الزمان منعًا لحصول الفتنة بناءً على قوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ.
وابتدأ السلطان بايزيد الأول أعماله بأن ولى الأمير «إسطفن» بن لازار — ملك الصرب — حاكمًا عليها وتزوج أخته «أوليفيرا»، وأجازه بأن يحكم بلاده على حسب قوانينهم بشرط دفع جزية معينة وتقديم عدد معين من الجنود ينضمون إلى الجيوش الشاهانية وقت الحرب، وفعل ذلك ولم يضمَّ بلاد الصرب إلى أملاكه ويجعلها ولاية كباقي الولايات ليسكن بالُ الصربيين حتى لا يكونوا شغلًا شاغلًا له؛ نظرًا لشهامتهم وحبهم الاستقلال. ولما ساد الأمن في أوروبا قصد بلاد آسيا وفتح مدينة «آلاشهر» المعروفة عند الإفرنج باسم «فيلادلفيا» سنة ١٣٩١م، وهي آخر مدينة بقيت للروم في آسيا، وهابه أمير «آيدين»، فترك له أملاكه وعاش مطمئن الخاطر في إحدى المدن الخارجة عن النفود العثماني، وكذلك ترك أميرا منتشا وصاروخان ولايتيهما واحتميا عند أمير «قسطموني».

وتنازل الأمير علاء الدين — حاكم بلاد القرمان — للسلطان عن جزء عظيم من أملاكه ليؤمِّنه على الباقي.

وبعد هذه الفتوحات التي تَمَّ أغلبها بدون حرب عاد السلطان إلى أوروبا وحارب «إمانويل باليولوج» — ملك الروم — وحاصره في القسطنطينية، وبعد أن ضيَّق عليها الحصار ترك حولها جيشًا جرارًا وسافر لغزو بلاد الفلاخ؛ فقهر أميرها المدعو «دوك مانيس»، وأكرهه على التوقيع على معاهدة يعترف فيها بسيادة الدولة العلية العثمانية على بلاده، ويتعهَّد لها بدفع جزية سنوية مع بقاء بلاده له يحكمها بمقتضى عوائد وقوانين أهلها، وتم ذلك في سنة ١٣٩٣م.

وفي أثناء اشتغال السلطان بمحاربة الفلاخ أراد علاء الدين — أمير القرمان — أن يستردَّ ما تنازل عنه للدولة العلية؛ فجهز جيشًا عظيمًا، واستعان ببعض مجاوريه، وسار بخيله ورجله قاصدًا مهاجمة مدينة أنقرة بعد أن فاز على ديمورطاش باشا في إحدى الوقائع وأخذه أسيرًا. فلما بلغ خبره إلى مسامع السلطان قام بنفسه إلى بلاد الأناطول وجدَّ في طلب علاء الدين حتى تقابل الجيشان في موضع يقال له «آق جاي»، فهزمه السلطان بايزيد وأسره هو وولديه محمدًا وعليًّا، وضم ما بقي من أملاكه إليه. وبذلك انمحت سلطنة القرمان وصارت ولاية عثمانية، ثم فتحت إمارات سيواس وتوقات، وكان آخر أمرائها يدعى الغازي برهان الدين.

وبذا لم يبقَ من الإمارات التي قامت على أطلال دولة آل سلجوق إلا إمارة قسطموني خارجة عن أملاك الدولة العثمانية، وكان أميرها يسمى بايزيد أيضًا، واحتمى ببلاده كثير من أولاد الأمراء الذين فتحت بلادهم؛ فكان ذلك سبب غزو بلاده، وذلك أن السلطان أرسل إليه من يطلب منه تسليم أولاد صاحب آيدين وصاروخان فامتنع، فسار إليه السلطان بايزيد بنفسه وأغار على بلاده، وفتح مدائن ساسون وجانك وعثمانجق. وبذلك انقرضت جميع الإمارات الصغيرة القائمة ببلاد الأناطول، وصار العَلَم العثماني يخفق منصورًا فوق صروحها، أما بايزيد — صاحب قسطموني — فلجأ إلى تيمورلنك سلطان الموغول.١
ومع استمرار الحصار حول القسطنطينية ضم السلطان بلاد البلغار إلى الأملاك العثمانية؛ فصارت ولاية عثمانية كباقي الولايات بعد أن قتل أميرها «سيسمان» وأسلم ابنه وعين حاكمًا لسمسون سنة ١٣٩٤م.

واقعة نيكوبلي
فلما علم «سجسمون» — ملك المجر — خبر ما حلَّ ببلاد البلغار خشي على مملكته؛ إذ صار متاخمًا في عدَّة نقط للدولة العلية، فاستنجد بأوروبا وساعده البابا، وأعلن الحرب الدينية بين أقوام أوروبا الغربية، فأجاب الدعوة دوك «بورغونيا»،٢ وأرسل ابنه الكونت دي نيفر ومعه ستة آلاف محارب أغلبهم من أشراف فرنسا، وفيهم كثير من أقارب ملك فرنسا نفسه، وانضم إليه حين مسيره إلى بلاد المجر أمراء «بافاريا»٣ وإستيريا وشواليه القديس حنا الأورشليمي٤ وكثير من الألمانيين، ثم اجتاز هذا الجيش نهر الدانوب وعسكر حول مدينة نيكوبلي لمحاصرتها، فسار إليهم السلطان بايزيد ومعه مئتا ألف مقاتل بهم كثير من أهالي الصرب تحت قيادة أميرهم «إسطفن» بن لازار وغيرهم من الأمم المسيحية الخاضعة لسلطان العثمانيين، وقاتلهم قتالًا عنيفًا في يوم ٢٣ ذي القعدة سنة ٧٩٨ (الموافق ٢٧ سبتمبر سنة ١٣٩٦). كانت نتيجتها انتصار العثمانيين على الجيوش المتألبة عليهم، وأسر كثير من أشراف فرنسا منهم الكونت دي نيفر نفسه، وقتل أغلبهم، وأطلق سراح الباقي، والكونت دي نيفر بعد دفع فداء اتفق على مقداره، ويقال: إن السلطان بايزيد لما أطلق سراح الكونت دي نيفر وكان قد ألزم بالقسم على أن لا يعود لمحاربته قال له: إني أُجيز لك أن لا تحفظ هذا اليمين فأنت في حلٍّ من الرجوع لمحاربتي؛ إذ لا شيء أحب إليَّ من محاربة جميع مسيحيي أوروبا والانتصار عليهم.
هذا؛ وقد شدد الحصار بعد ذلك على مدينة القسطنطينية، ولولا إغارة الموغول على بلاد آسيا الصغرى لتمكَّن من فتحها، لكن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ فاكتفى بإبرام الصلح مع ملكها هذه المرة بشرط دفع عشرة آلاف ذهب سنويًّا من عملة وقتها، وأن يجيز للمسلمين أن يبنوا بها جامعًا لإقامة شعائر الدين الحنيف، وأن تقام لهم محكمة شرعية للنظر في قضايا المستوطنين بها منهم.
إغارة تيمورلنك على آسيا الصغرى وواقعة أنقرة ووقوع السلطان بايزيد أسيرًا في أيدي تيمور
وسبب إغارة تيمورلنك التتري الموغولي على الدولة العثمانية أن أمير بغداد والعراق المدعوَّ أحمد جلاير التجأ إلى السلطان بايزيد حينما هاجمه الموغول في بلاده، فأرسل تيمورلنك إلى السلطان بطلبه فأبى تسليمه إليه، فأغار تيمور بجيوشه الجرارة على بلاد آسيا الصغرى وافتتح مدينة سيواس بأرمينيا وأخذ ابن السلطان بايزيد المدعو أرطغرل أسيرًا وقطع رأسه، ولذلك جمع السلطان بايزيد جيوشه وسار لمحاربة تيمور الأعرج، فتقابل الجيشان في سهل أنقرة، واستمرت الحرب من قبل شروق الشمس إلى بعد غروبها، وأظهر السلطان خلالها من الشجاعة ما بهر العقول وأدهش الأذهان، ولكن ضعف جيشه بفرار فرق آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان وانضمامها إلى جيوش تيمور لوجود أولاد أمرائهم الأصليين في معسكر التتار، ولم يبقَ مع السلطان إلا عشرة آلاف انكشاري وعساكر الصرب، فحارب معهم طول النهار حتى سقط أسيرًا في أيدي الموغول هو وابنه موسى، وهرب أولاده سليمان ومحمد وعيسى، ولم يوقَف لابنه الخامس مصطفى على أثر، وكان ذلك في ١٩ ذي الحجة سنة ٨٠٤ (الموافق ٢٠ يوليو سنة ١٤٠٢م)، فعامل تيمورلنك أسيره بايزيد بالحسنى وأكرم مثواه، لكنه شدَّد في المراقبة عليه نوعًا بعد أن شرع في الهروب ثلاث مرات وضُبط. ويقال: إنه سجنه في قفص من الحديد حتى مات في ١٥ شعبان سنة ٨٠٥ (الموافق ٩ مارس سنة ١٤٠٣م) وعمره ٤٤ سنة، ومدة حكمه ١٣ سنة.
وهذه رواية نقلها بعض مؤرخي الإفرنج بدون تروٍّ؛ وذلك أن بايزيد رغب أن يسير مع جيش تيمورلنك في تختروان، يحمله حصانان ومقفلة شبابيكه بقضبان من حديد. ولكون بعض مؤرخي الترك أطلق على التختروان لفظ قفص ظن بعض المترجمين من الإفرنج أنه وضعه في قفص كما توضع الوحوش الكاسرة، ونقل هذه الرواية على علاتها كثير من المتقدِّمين، لكن لما تقدَّم علم التاريخ وترجمت التواريخ التركية أصلح متأخرو المؤرخين خطأهم، وأجمعوا على أنه لم يضعه في قفص مطلقًا (راجع الجزء الثاني من مؤلف همر المطبوع بباريس سنة ١٨٣٥ صحيفة ٩٦ وما بعدها).
ومما يؤيد حسن معاملة تيمورلنك للسلطان بايزيد أنه صرَّح لابنه موسى بنقل جثته بكل احتفال إلى مدينة بورصة، حيث دفن بجانب السلطان مراد (مع بقاء موسى في حالة الأسر وفي حراسة أمير كرميان).
الفوضى بعد موت السلطان بايزيد
وبعد موت السلطان بايزيد تجزأت الدولة إلى عدة إمارات صغيرة كما حصل بعد سقوط دولة آل سلجوق؛ لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قسطموني وصاروخان وكرميان وآيدين ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد.
واستقل في هذه الفترة كلٌّ من البلغار والصرب والفلاخ، ولم يبقَ تابعًا للراية العثمانية إلا قليل من البلدان. ومما زاد الخطر على هذه الدولة الإسلامية عدم اتفاق أولاد بايزيد على تنصيب أحدهم، بل كان كلٌّ منهم يدَّعي الأحقية لنفسه؛ فأقام سليمان في مدينة أدرنة، حيث ولاه الجنود سلطانًا، ولأجل أن يستظهر على إخوته عقد محالفة مع ملك الروم «إيمانويل الثاني»، وتنازل له عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود لينجده على إخوته الباقين، ولزيادة الوثوق منه تزوَّج إحدى قريباته.
وكان محمد بن بايزيد يحارب جنود تيمورلنك في جبال الأناطول، واستخلص منهم مدينتيْ توقات وأماسية. أما عيسى فلما بلغه خبر وفاة والده جمع ما كان معه من الجند بمدينة بورصة، حيث كان مختفيًا، وأعلن نفسه خليفة آل عثمان بمساعدة القائد «ديمورطاش باشا». ومما يوجب الأسف والحزن أن استنجد كل من هؤلاء الثلاثة بتيمورلنك، سبب هذه الفتن والمفاسد، فقَبِلَ وفودهم بكل ارتياح وشجَّعهم على المثابرة والثبات في الحرب؛ يريد بذلك إضعافهم ببعضهم حتى لا تقوم للدولة العلية بعدهم قائمة.
فسار محمد لمحاربة أخيه عيسى وهزمه في عدة مواقع وقتله في الأخيرة منها، ولم يبقَ له بعد ذلك منازع من إخوته في آسيا الصغرى، واستخلص أخاه موسى بعد ذلك من أمير كرميان وسلمه قيادة جيش جرَّار أرسله به إلى أوروبا لمحاربة أخيه سليمان فلم يقوَ عليه، بل انهزم أمامه وعاد مقهورًا إلى آسيا، ثم جمع جيشًا آخر وعاد به إلى أوروبا وحارب أخاه سليمان وقتله خارج أسوار مدينة أدرنة في سنة ١٤١٠، وبعدها أغار على بلاد الصرب وعاقب أهلها على خروجهم عن الطاعة، وقاتل سجسمون — ملك المجر — الذي تصدَّى له لردِّه عن بلاد الصرب، لكن داخل الطمع الأمير موسى فعصى أخاه محمدًا الذي أمدَّه بالجنود لمحاربة أخيهما سليمان وأراد الاستقلال ببلاد الدولة بأوروبا، وحاصر القسطنطينية ليفتحها لنفسه؛ فاستنجد ملكها بالأمير محمد، فأتى إليه مسرعًا لمحاربته وألزمه بعد محاربة شديدة برفع الحصار عنها، ثم حالف الأمير محمد ملك القسطنطينية وأمير الصرب وبثوا الدسائس في جيش موسى حتى خانه أغلب قوَّاده، ووقع أخيرًا بين يديْ أخيه محمد فأمر بقتله سنة ٨١٦ هجرية (الموافقة سنة ١٤١٣ ميلادية).

١ أي تيمور الأعرج، ولد سنة ١٣٣٦ ميلادية تقريبًا ببلدة بالقرب من سمرقند، ويتصل نسبه بجنكيز خان التتري من جهة النساء، وخلف عمه سيف الدين في إمارة كيش سنة ١٣٦٠، وأخذ في فتح ما حوله من الإمارات والقبائل، ثم فتح بلاد خوارزم، وكشغر، وبلاد إيران، ومنها سار إلى جنوب الروسية، وفتح إقليم آزاق، ثم قصد بلاد الهند فانتصر على صاحب «دهلي»، وفتح معظم الهند الإنكليزية، ومنها عاد إلى الغرب ففتح بلاد الشام ومدينة بغداد؛ التي خرَّبها عن آخرها. وقبل أن ينظم هذه الفتوحات العديدة قصد بلاد الصين في جيش يجل عن الحصر بعد أن حارب السلطان بايزيد العثماني، وأخذه أسيرًا، فعاجله المنون قبل أن يصل الصين في إقليم خوقند في ١٧ شعبان سنة ٨٠٧، الموافق ١٩ فبراير سنة ١٤٠٥ ميلادية. وبعد موته تفرقت مملكته بين ولده شاه رخ وأحفاده وأولاد أحفاده.
٢ كانت ولاية عظيمة في شرق فرنسا شبه مستقلة، لم يكن لملوك فرنسا عليها سوى السيادة، وحق طلب الجنود للحرب عند الضرورة. وأهم أمرائها شارل الجسور الذي توفي سنة ١٤٧٧ عن غير عقب ذكر، وضمت أملاكه إلى مملكة فرنسا، وصارت كباقي الولايات. وفي سنة ١٧٨٩ قسمت إلى عدة مديريات؛ بمقتضى الترتيب الذي وضع أثناء الثورة الفرنساوية العظمى، ويشتهر هذا الإقليم بالنبيذ الجيد.
٣ مملكة مستقلة بألمانيا؛ يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين من النفوس، وتختها مدينة «مونيخ» أو «مونكن»، كما يسميها الألمان، وهي داخلة الآن ضمن الإمبراطورية الألمانية التي تشكلت سنة ١٨٧١ عقب تغلب الروسيا على فرنسا مع بقاء استقلالها وحكومتها وملوكها كما كانت.
٤ هم طائفة من الرهبان الذين ذهبوا إلى بلاد فلسطين في القرن الحادي عشر للمسيح أثناء الحروب الصليبية، التي أثارها المسيحيون على المسلمين لامتلاك القدس الشريف لخدمة حجاج النصارى. ولما استولى السلطان صلاح الدين الأيوبي على مدينة أورشليم سنة ١١٨٧؛ انتقلت هذه الطائفة إلى عكا، ثم إلى جزيرة رودس، واتخذتها مركزًا لمحاربة المسلمين وتعطيل تجارتهم ونهب مراكبهم وأسر من بها. ولما فتح السلطان سليمان القانوني هذه الجزيرة سنة ١٥٢٢ كما سيجيء؛ رحلت هذه الطغمة إلى جزيرة مالطة التي أعطاها لهم الإمبراطور شارلكان؛ فاحتلوها إلى أن فتحها بونابرت سنة ١٧٩٨ أثناء مجيئه إلى مصر؛ فانمحت هذه الطائفة تقريبًا، ولم يبقَ إلا اسمها.
 
واقعة نيكوبلي
فلما علم «سجسمون» — ملك المجر — خبر ما حلَّ ببلاد البلغار خشي على مملكته؛ إذ صار متاخمًا في عدَّة نقط للدولة العلية، فاستنجد بأوروبا وساعده البابا، وأعلن الحرب الدينية بين أقوام أوروبا الغربية، فأجاب الدعوة دوك «بورغونيا»،٢ وأرسل ابنه الكونت دي نيفر ومعه ستة آلاف محارب أغلبهم من أشراف فرنسا، وفيهم كثير من أقارب ملك فرنسا نفسه، وانضم إليه حين مسيره إلى بلاد المجر أمراء «بافاريا»٣ وإستيريا وشواليه القديس حنا الأورشليمي٤ وكثير من الألمانيين، ثم اجتاز هذا الجيش نهر الدانوب وعسكر حول مدينة نيكوبلي لمحاصرتها، فسار إليهم السلطان بايزيد ومعه مئتا ألف مقاتل بهم كثير من أهالي الصرب تحت قيادة أميرهم «إسطفن» بن لازار وغيرهم من الأمم المسيحية الخاضعة لسلطان العثمانيين، وقاتلهم قتالًا عنيفًا في يوم ٢٣ ذي القعدة سنة ٧٩٨ (الموافق ٢٧ سبتمبر سنة ١٣٩٦). كانت نتيجتها انتصار العثمانيين على الجيوش المتألبة عليهم، وأسر كثير من أشراف فرنسا منهم الكونت دي نيفر نفسه، وقتل أغلبهم، وأطلق سراح الباقي، والكونت دي نيفر بعد دفع فداء اتفق على مقداره، ويقال: إن السلطان بايزيد لما أطلق سراح الكونت دي نيفر وكان قد ألزم بالقسم على أن لا يعود لمحاربته قال له: إني أُجيز لك أن لا تحفظ هذا اليمين فأنت في حلٍّ من الرجوع لمحاربتي؛ إذ لا شيء أحب إليَّ من محاربة جميع مسيحيي أوروبا والانتصار عليهم.
هذا؛ وقد شدد الحصار بعد ذلك على مدينة القسطنطينية، ولولا إغارة الموغول على بلاد آسيا الصغرى لتمكَّن من فتحها، لكن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ فاكتفى بإبرام الصلح مع ملكها هذه المرة بشرط دفع عشرة آلاف ذهب سنويًّا من عملة وقتها، وأن يجيز للمسلمين أن يبنوا بها جامعًا لإقامة شعائر الدين الحنيف، وأن تقام لهم محكمة شرعية للنظر في قضايا المستوطنين بها منهم.
إغارة تيمورلنك على آسيا الصغرى وواقعة أنقرة ووقوع السلطان بايزيد أسيرًا في أيدي تيمور
وسبب إغارة تيمورلنك التتري الموغولي على الدولة العثمانية أن أمير بغداد والعراق المدعوَّ أحمد جلاير التجأ إلى السلطان بايزيد حينما هاجمه الموغول في بلاده، فأرسل تيمورلنك إلى السلطان بطلبه فأبى تسليمه إليه، فأغار تيمور بجيوشه الجرارة على بلاد آسيا الصغرى وافتتح مدينة سيواس بأرمينيا وأخذ ابن السلطان بايزيد المدعو أرطغرل أسيرًا وقطع رأسه، ولذلك جمع السلطان بايزيد جيوشه وسار لمحاربة تيمور الأعرج، فتقابل الجيشان في سهل أنقرة، واستمرت الحرب من قبل شروق الشمس إلى بعد غروبها، وأظهر السلطان خلالها من الشجاعة ما بهر العقول وأدهش الأذهان، ولكن ضعف جيشه بفرار فرق آيدين ومنتشا وصاروخان وكرميان وانضمامها إلى جيوش تيمور لوجود أولاد أمرائهم الأصليين في معسكر التتار، ولم يبقَ مع السلطان إلا عشرة آلاف انكشاري وعساكر الصرب، فحارب معهم طول النهار حتى سقط أسيرًا في أيدي الموغول هو وابنه موسى، وهرب أولاده سليمان ومحمد وعيسى، ولم يوقَف لابنه الخامس مصطفى على أثر، وكان ذلك في ١٩ ذي الحجة سنة ٨٠٤ (الموافق ٢٠ يوليو سنة ١٤٠٢م)، فعامل تيمورلنك أسيره بايزيد بالحسنى وأكرم مثواه، لكنه شدَّد في المراقبة عليه نوعًا بعد أن شرع في الهروب ثلاث مرات وضُبط. ويقال: إنه سجنه في قفص من الحديد حتى مات في ١٥ شعبان سنة ٨٠٥ (الموافق ٩ مارس سنة ١٤٠٣م) وعمره ٤٤ سنة، ومدة حكمه ١٣ سنة.
وهذه رواية نقلها بعض مؤرخي الإفرنج بدون تروٍّ؛ وذلك أن بايزيد رغب أن يسير مع جيش تيمورلنك في تختروان، يحمله حصانان ومقفلة شبابيكه بقضبان من حديد. ولكون بعض مؤرخي الترك أطلق على التختروان لفظ قفص ظن بعض المترجمين من الإفرنج أنه وضعه في قفص كما توضع الوحوش الكاسرة، ونقل هذه الرواية على علاتها كثير من المتقدِّمين، لكن لما تقدَّم علم التاريخ وترجمت التواريخ التركية أصلح متأخرو المؤرخين خطأهم، وأجمعوا على أنه لم يضعه في قفص مطلقًا (راجع الجزء الثاني من مؤلف همر المطبوع بباريس سنة ١٨٣٥ صحيفة ٩٦ وما بعدها).
ومما يؤيد حسن معاملة تيمورلنك للسلطان بايزيد أنه صرَّح لابنه موسى بنقل جثته بكل احتفال إلى مدينة بورصة، حيث دفن بجانب السلطان مراد (مع بقاء موسى في حالة الأسر وفي حراسة أمير كرميان).
الفوضى بعد موت السلطان بايزيد
وبعد موت السلطان بايزيد تجزأت الدولة إلى عدة إمارات صغيرة كما حصل بعد سقوط دولة آل سلجوق؛ لأن تيمورلنك أعاد إلى أمراء قسطموني وصاروخان وكرميان وآيدين ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البلاد.
واستقل في هذه الفترة كلٌّ من البلغار والصرب والفلاخ، ولم يبقَ تابعًا للراية العثمانية إلا قليل من البلدان. ومما زاد الخطر على هذه الدولة الإسلامية عدم اتفاق أولاد بايزيد على تنصيب أحدهم، بل كان كلٌّ منهم يدَّعي الأحقية لنفسه؛ فأقام سليمان في مدينة أدرنة، حيث ولاه الجنود سلطانًا، ولأجل أن يستظهر على إخوته عقد محالفة مع ملك الروم «إيمانويل الثاني»، وتنازل له عن مدينة سلانيك وسواحل البحر الأسود لينجده على إخوته الباقين، ولزيادة الوثوق منه تزوَّج إحدى قريباته.
وكان محمد بن بايزيد يحارب جنود تيمورلنك في جبال الأناطول، واستخلص منهم مدينتيْ توقات وأماسية. أما عيسى فلما بلغه خبر وفاة والده جمع ما كان معه من الجند بمدينة بورصة، حيث كان مختفيًا، وأعلن نفسه خليفة آل عثمان بمساعدة القائد «ديمورطاش باشا». ومما يوجب الأسف والحزن أن استنجد كل من هؤلاء الثلاثة بتيمورلنك، سبب هذه الفتن والمفاسد، فقَبِلَ وفودهم بكل ارتياح وشجَّعهم على المثابرة والثبات في الحرب؛ يريد بذلك إضعافهم ببعضهم حتى لا تقوم للدولة العلية بعدهم قائمة.
فسار محمد لمحاربة أخيه عيسى وهزمه في عدة مواقع وقتله في الأخيرة منها، ولم يبقَ له بعد ذلك منازع من إخوته في آسيا الصغرى، واستخلص أخاه موسى بعد ذلك من أمير كرميان وسلمه قيادة جيش جرَّار أرسله به إلى أوروبا لمحاربة أخيه سليمان فلم يقوَ عليه، بل انهزم أمامه وعاد مقهورًا إلى آسيا، ثم جمع جيشًا آخر وعاد به إلى أوروبا وحارب أخاه سليمان وقتله خارج أسوار مدينة أدرنة في سنة ١٤١٠، وبعدها أغار على بلاد الصرب وعاقب أهلها على خروجهم عن الطاعة، وقاتل سجسمون — ملك المجر — الذي تصدَّى له لردِّه عن بلاد الصرب، لكن داخل الطمع الأمير موسى فعصى أخاه محمدًا الذي أمدَّه بالجنود لمحاربة أخيهما سليمان وأراد الاستقلال ببلاد الدولة بأوروبا، وحاصر القسطنطينية ليفتحها لنفسه؛ فاستنجد ملكها بالأمير محمد، فأتى إليه مسرعًا لمحاربته وألزمه بعد محاربة شديدة برفع الحصار عنها، ثم حالف الأمير محمد ملك القسطنطينية وأمير الصرب وبثوا الدسائس في جيش موسى حتى خانه أغلب قوَّاده، ووقع أخيرًا بين يديْ أخيه محمد فأمر بقتله سنة ٨١٦ هجرية (الموافقة سنة ١٤١٣ ميلادية).

١ أي تيمور الأعرج، ولد سنة ١٣٣٦ ميلادية تقريبًا ببلدة بالقرب من سمرقند، ويتصل نسبه بجنكيز خان التتري من جهة النساء، وخلف عمه سيف الدين في إمارة كيش سنة ١٣٦٠، وأخذ في فتح ما حوله من الإمارات والقبائل، ثم فتح بلاد خوارزم، وكشغر، وبلاد إيران، ومنها سار إلى جنوب الروسية، وفتح إقليم آزاق، ثم قصد بلاد الهند فانتصر على صاحب «دهلي»، وفتح معظم الهند الإنكليزية، ومنها عاد إلى الغرب ففتح بلاد الشام ومدينة بغداد؛ التي خرَّبها عن آخرها. وقبل أن ينظم هذه الفتوحات العديدة قصد بلاد الصين في جيش يجل عن الحصر بعد أن حارب السلطان بايزيد العثماني، وأخذه أسيرًا، فعاجله المنون قبل أن يصل الصين في إقليم خوقند في ١٧ شعبان سنة ٨٠٧، الموافق ١٩ فبراير سنة ١٤٠٥ ميلادية. وبعد موته تفرقت مملكته بين ولده شاه رخ وأحفاده وأولاد أحفاده.
٢ كانت ولاية عظيمة في شرق فرنسا شبه مستقلة، لم يكن لملوك فرنسا عليها سوى السيادة، وحق طلب الجنود للحرب عند الضرورة. وأهم أمرائها شارل الجسور الذي توفي سنة ١٤٧٧ عن غير عقب ذكر، وضمت أملاكه إلى مملكة فرنسا، وصارت كباقي الولايات. وفي سنة ١٧٨٩ قسمت إلى عدة مديريات؛ بمقتضى الترتيب الذي وضع أثناء الثورة الفرنساوية العظمى، ويشتهر هذا الإقليم بالنبيذ الجيد.
٣ مملكة مستقلة بألمانيا؛ يبلغ عدد سكانها خمسة ملايين من النفوس، وتختها مدينة «مونيخ» أو «مونكن»، كما يسميها الألمان، وهي داخلة الآن ضمن الإمبراطورية الألمانية التي تشكلت سنة ١٨٧١ عقب تغلب الروسيا على فرنسا مع بقاء استقلالها وحكومتها وملوكها كما كانت.
٤ هم طائفة من الرهبان الذين ذهبوا إلى بلاد فلسطين في القرن الحادي عشر للمسيح أثناء الحروب الصليبية، التي أثارها المسيحيون على المسلمين لامتلاك القدس الشريف لخدمة حجاج النصارى. ولما استولى السلطان صلاح الدين الأيوبي على مدينة أورشليم سنة ١١٨٧؛ انتقلت هذه الطائفة إلى عكا، ثم إلى جزيرة رودس، واتخذتها مركزًا لمحاربة المسلمين وتعطيل تجارتهم ونهب مراكبهم وأسر من بها. ولما فتح السلطان سليمان القانوني هذه الجزيرة سنة ١٥٢٢ كما سيجيء؛ رحلت هذه الطغمة إلى جزيرة مالطة التي أعطاها لهم الإمبراطور شارلكان؛ فاحتلوها إلى أن فتحها بونابرت سنة ١٧٩٨ أثناء مجيئه إلى مصر؛ فانمحت هذه الطائفة تقريبًا، ولم يبقَ إلا اسمها.
السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح وفتح القسطنطينية
ولد هذا السلطان في ٢٦ رجب سنة ٨٣٣ (٢٠ أبريل سنة ١٤٢٩). وهو سابع سلاطين هذه السلالة الملوكية. ولما تولى الملك بعد أبيه لم يكن بآسيا الصغرى خارجًا عن سلطانه إلَّا جزء من بلاد القرمان ومدينة سينوب١ ومملكة طرابزون الرومية.٢ وصارت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها، وكان إقليم «مورة» مجزَّأً بين البنادقة وعدة إمارات صغيرة يحكمها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلَّفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحروب الصليبية، وبلاد الأرنئود وإيبيروس في حمى إسكندر بك السالف الذكر، وبلاد البشناق «البوسنة» مستقلة والصرب تابعة للدولة العلية تابعية سيادية، وما بقي من بحيث جزيرة البلقان داخلًا تحت سلطة الدولة العلية.
وبعد أن أمر بنقل جثة والده إلى مدينة بورصة لدفنها بها أمر بقتل أخٍ له رضيع اسمه أحمد، وبإرجاع الأميرة مارا الصربية إلى والدها. ثم أخذ يستعدُّ لتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان ومدينة القسطنطينية؛ حتى تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو مهاجم أو صديق منافق. لكنه قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد أن يحصِّن بوغاز البوسفور؛ حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون، وذلك بأن يقيم قلعة على شاطئ البوغاز من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه السلطان بايزيد يلدرم ببر آسيا. ولما بلغ ملك الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيرًا يعرض عليه دفع الجزية التي يقررها، فرفض طلبه وسعى في إيجاد سبب لفتح باب الحرب، ولم يلبث أن وجد هذا السبب بتعدِّي الجنود العثمانية على بعض قرى الروم ودفاع هؤلاء عن أنفسهم وقتل البعض من الفريقين.

فحاصر السلطان المدينة في أوائل أبريل سنة ١٤٥٣ من جهة البر بجيش يبلغ المائتين وخمسين ألف جندي، ومن جهة البحر بعمارة مؤلفة من مائة وثمانين سفينة، وأقام حول المدينة أربع عشرة بطارية طوبجية وضع بها مدافع جسيمة صنعها صانع مجري شهير اسمه «أوربان» كانت تقذف كرات من الحجر زنة كل واحدة منها اثنا عشر قنطارًا إلى مسافة ميل، وفي أثناء الحصار اكتشف قبر أبي أيوب الأنصاري الذي استشهد حين حصار القسطنطينية في سنة ٥٢ﻫ في خلافة معاوية بن أبي سفيان الأموي، وبعد الفتح بني له مسجد جامع، وجرت العادة بعد ذلك أن كل سلطان يتولى يتقلد سيف عثمان الغازي الأول بهذا المسجد، وهذا الاحتفال يعد بمثابة التتويج عند ملوك الإفرنج، ولم تزل هذه العادة متبعة حتى الآن. ولما شاهد قسطنطين آخر ملوك الروم هذه الاستعدادات استنجد بأوروبا؛ فلبَّى طلبه أهالي جنوة،٣ وأرسلوا له عمارة بحرية تحت إمرة جوستنياني، فأتى بمراكبه وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فعارضته السفن العثمانية، وانتشرت بينهما حرب هائلة في يوم ١١ ربيع الثاني سنة ٨٥٧ (الموافق ٢١ أبريل سنة ١٤٥٣) انتهت بفوز جوستنياني ودخوله الميناء بعد أن رفع المحصورون السلاسل الحديدية التي وضعت لمنع المراكب العثمانية من الوصول إليها، ثم أعيدت بعد مروره كما كانت.
وبعدها أخذ السلطان يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار برًّا وبحرًا؛ فخطر بباله فكر غريب في بابه، وهو أن ينقل المراكب على البر ليجتازوا السلاسل الموضوعة لمنعه، وتم هذا الأمر المستغرب بأن مهَّد طريقًا على البر اختُلف في طوله، والمرجَّح أنه فرسخان؛ أي ستة أميال، ورصت فوقه ألواح من الخشب صُبَّتْ عليها كمية من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وبهذه الكيفية أمكن نقل نحو السبعين سفينة في ليلة واحدة، حتى إذا أصبح النهار ونظرها المحصورون أيقنوا أن لا مَنَاصَ من نصر العثمانيين عليهم، لكن لم تخمد عزائمهم، بل ازدادوا إقدامًا، وصمموا على الدفاع عن أوطانهم حتى الممات.

وفي يوم ١٥ جمادى الأولى سنة ٨٥٧ (الموافق ٢٤ مايو سنة ١٤٥٣) أرسل السلطان محمد إلى قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعًا يتعهَّد له بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وأن يعطيه جزيرة مورة؛ فلم يقبل قسطنطين ذلك، بل آثر الموت على تسليم المدينة، فعند ذلك نبَّه السلطان على جيوشه بالاستعداد للهجوم في يوم ٢٠ جمادى الأولى سنة ٨٥٧ (الموافق ٢٩ مايو سنة ١٤٥٣)، ووعد الجيوش بمكافأتهم عند تمام النصر وبإقطاعهم أراضيَ كثيرة.

وفي الليلة السابقة لليوم المحدَّد أشعلت الجنود العثمانية الأنوار أمام خيامها للاحتفال بالنصر المحقق لديهم، وظلوا طول ليلهم يهللون ويكبرون، حتى إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر بالهجوم، فهجم مائة وخمسون ألف جندي وتسلَّقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فجٍّ، وأعملوا السيف في من عارضهم، ودخلوا كنيسة القديسة صوفيا حيث كان يصلي فيها البطريق وحوله عدد عظيم من الأهالي، ويعتقد الروم حتى الآن أن حائط الكنيسة انشقَّ ودخل فيه البطرق والصور المقدَّسة، وفي اعتقادهم أن الحائط تنشق ثانية يوم يخرج الأتراك من القسطنطينية ويخرج البطرق منها ويتم صلاته التي قطعها عند دخول العثمانيين عليه عند الفتح. وقد أرَّخ بعضهم هذا الفتح المبين (بلدة طيبة) سنة ٨٥٧، وسميت المدينة إسلامبول؛ أي تخت الإسلام أو مدينة الإسلام.

أما قسطنطين فقاتل حتى مات في الدفاع عن وطنه. وبعد فتحها جعلت عاصمة للدولة ولن تزال كذلك إن شاء الله، ولنذكر هنا أن المسلمين حاصروا القسطنطينية إحدى عشرة مرة قبل هذه المرة الأخيرة، منها سبعة في القرنين الأوَّلين للإسلام، فحاصرها معاوية في خلافة سيدنا عليٍّ سنة ٣٤ﻫ (٦٥٤م)، وحاصرها يزيد بن معاوية سنة ٤٧ﻫ (٦٦٧م) في خلافة سيدنا عليٍّ أيضًا، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة ٥٢ﻫ (٦٧٢م)، وفي سنة ٩٧ﻫ (٧١٥م) حاصرها مسلمة في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز الأموي، وحوصرت أيضًا في خلافة هشام سنة ١٢١ﻫ (٧٣٩م)، وفي المرَّة السابعة حاصرها أحد قوَّاد الخليفة هارون الرشيد سنة ١٨٢ﻫ (٧٦٨م).

هذا؛ ثم دخل السلطان المدينة عند الظهر فوجد الجنود مشتغلة بالسلب والنهب وغيره؛ فأصدر أوامره بمنع كل اعتداء؛ فَسَادَ الأمن حالًا، ثم زار كنيسة أيا صوفيا وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين. وبعد تمام الفتح على هذه الصورة أعلن في كافة الجهات بأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيين، بل إنه يضمن لهم حرية دينهم وحفظ أملاكهم، فرجع من هاجر من المسيحيين، وأعطاهم نصف الكنائس، وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين، ثم جمع أئمة دينهم لينتخبوا بطريقًا لهم فاختاروا جورج سكولاريوس، واعتمد السلطان هذا الانتخاب وجعله رئيسًا لطائفة الأروام، واحتفل بتثبيته بنفس الأبهة والنظام الذي كان يُعمل للبطارقة في أيام ملوك الروم المسيحيين، وأعطاه حرسًا من عساكر الانكشارية، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكافة أنواعها المختصة بالأروام، وعين معه في ذلك مجلسًا مشكَّلًا من أكبر موظفي الكنيسة، وأعطى هذا الحق في الولايات للمطارنة والقسوس. وفي مقابلة هذه المنح فرض عليهم دفع الخراج مستثنيًا من ذلك أئمة الدين فقط.

وبعد إتمام هذه الترتيبات وإعادة ما هدم من أسوار المدينة وتحصينها، سافر بجيوشه لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد مورة، لكن لم ينتظر أميراها دمتريوس وتوماس أَخَوَا قسطنطين قدومه، بل أرسلا إليه يخبرانه بقبولهما دفع جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوكا، فقبل ذلك السلطان وغيَّر وجهته قاصدًا بلاد الصرب، فأتى هونياد الشجاع المجري وردَّ عنهم مقدمة الجيوش العثمانية، لكن لم يرغب الصرب في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم؛ حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا رومة والصرب أرثوذكسيين لا يُذعِنون لسلطة البابا، بل كانوا يفضلون تسلط المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرُّضهم للدين مطلقًا. ولذلك أبرم أمير الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنويًّا ثمانين ألف دوكا، وذلك في سنة ١٤٥٤، وفي السنة التالية أعاد السلطان عليها الكرَّة بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ومر بجيوشه من جنوب بلاد الصرب إلى شمالها بدون أن يلقى أقل معارضة، حتى وصل مدينة بلغراد الواقعة على نهر الدانوب، وحاصرها من جهة البر والنهر.

وكان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها دفاع الأبطال حتى يئس السلطان من فتحها ورفع عنها الحصار سنة ١٤٥٥، لكن وإن لم يتمكَّن العثمانيون من فتح عاصمة الصرب إلا أنهم ربحوا أمرًا عظيمًا، وهو إصابة هونياد بجراح بليغة مات بسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بنحو عشرين يومًا وأراح المسلمين منه، ولما علم السلطان بموته أرسل الصدر الأعظم محمود باشا لإتمام فتح بلاد الصرب؛ فأتمَّ فتحها من سنة ١٤٥٨ إلى سنة ١٤٦٠، وبذلك فقدت الصرب استقلالها نهائيًّا بعد أن أعيت الدولة العلية أكثر من مرة.

وفي هذه الأثناء تَمَّ فتح بلاد مورة، ففي سنة ١٤٥٨ فتح السلطان مدينة كورنته وما جاورها من بلاد اليونان، حتى جرد توماس باليولوج أخا قسطنطين من جميع بلاده، ولم يترك إقليم مورة لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية.

وبمجرَّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار توماس وحارب الأتراك وأخاه معًا؛ فاستنجد دمتريوس بالسلطان، فرجع بجيش عرمرم ولم يرجع حتى تَمَّ فتح إقليم مورة سنة ١٤٦٠، وهرب توماس إلى إيطاليا، ونُفِيَ دمتريوس في إحدى جزائر الأرخبيل.

وفي ذلك الوقت فتحت جزائر تاسوس والبروس وغيرها من جزائر بحر الروم.

وبعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحًا مؤقتًا مع إسكندر بك وترك له إقليميْ ألبانيا وإيبيروس، ثم حوَّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، فسار بجيشه بدون أن يعلم أحدًا بوجهته في أوائل سنة ١٤٦١، وهاجم أوَّلًا ميناء أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جينوة النازلين بهذه الأصقاع. ولكون سكانها تجارًا يحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرِّض لأموالهم ولا أرواحهم فتحوا أبواب المدينة ودخلها العثمانيون بغير حرب، ثم أرسل إلى أسفنديار — أمير مدينة سينوب — يطلب منه تسليم بلده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا الطلب أرسل أحد قوَّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصر الميناء فسلمها إليه الأمير وأقطعه الملك أراضي واسعة بإقليم بيثينيا مكافأة له على خضوعه. ثم قصد بنفسه مدينة طرابزون ودخلها بدون مقاومة شديدة، وقبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى القسطنطينية.

ولما عاد إليها جهَّز جيشًا لمحاربة أمير الفلاخ المدعو فلاددره قول؛ أي الشيطان، لمعاقبته على ما ارتكبه من الفظائع مع أهالي بلاده والتعدِّي على تجَّار العثمانيين النازلين بها. فلما قرب منها أرسل إليه هذا الأمير وفدًا يعرض على السلطان دفع جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكا، بشرط أن يصادق على جميع الشروط الواردة بالمعاهدة التي أبرمت في سنة ١٣٩٣ بين أمير الفلاخ إذ ذاك والسلطان بايزيد، فقبل السلطان محمد الثاني هذا الاقتراح وعاد بجيوشه، ولم يقصد أمير الفلاخ بهذه المعاهدة إلا التمكن من الاتحاد مع ملك المجر ومحاربة العثمانيين، فلما علم السلطان باتحادهما أرسل إليه مندوبين يسألانه عن الحقيقة فقبض عليهما وقتلهما بوضعهما على عمود محدَّد من الخشب (خازوق). وأغار بعدها على بلاد بلغاريا التابعة للدولة العلية، وعثا فيها الفساد، ورجع بخمسة وعشرين ألف أسير، فأرسل إليه السلطان يدعوه إلى الطاعة وإخلاء سبيل الأسرى، فلما مثل الرسل أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه وعند إبائهم طلبه لمخالفته لعوائدهم، أمر هذا الظالم بأن تسمر عمائمهم على رءوسهم بمسامير من حديد.

فلما وصلت هذه الأخبار إلى السلطان محمد استشاط غضبًا وسار على الفور بمائة وخمسين ألف مقاتل لمحاربة هذا الشقي الظلوم، فوصل في أقرب وقت إلى مدينة بخارست٤ عاصمة الأمير بعد أن هزمه وفرَّق جيوشه، لكنه لم يتمكَّن من القبض عليه لمجازاته على ما اقترفه من المظالم والمآثم لهروبه والتجائه إلى ملك المجر، فنادى السلطان بعزله ونصب مكانه أخاه راوول لثقته به بما أنه تربى في حضانة السلطان مند نعومة أظفاره، وبذا ضمت بلاد الفلاخ إلى الدولة العلية، ويقال إنه عند وصول السلطان محمد إلى ضواحي بخارست وجد حول المدينة جثث الأسرى الذين أتى بهم أمير الفلاخ من بلاد بلغاريا وقتلهم عن آخرهم بما فيهم الأطفال والنساء، وكان عددهم جميعًا عشرين ألفًا.
وفي سنة ١٤٦٢ حارب السلطان بلاد بوسنة لامتناع أميرها عن دفع الخراج، وأسره بعد محاربة عنيفة هو وولده، وأمر بقتلهما، فدانت له جميع بلاد البشناق (أهالي بوسنة). وفي سنة ١٤٦٤ أراد متياس كرفن٥ ملك المجر استخلاص بوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتِلَ معظم جيشه، وكانت عاقبة تداخله أن جعلت بوسنة ولاية كباقي ولايات الدولة، وسلبت ما كان منح لها من الامتيازات، ودخل في جيش الانكشارية ثلاثون ألفًا من شبانها، وأسلم أغلب أشراف أهاليها.
هذا؛ وكانت ابتدأت حركات العدوان في سنة ١٤٦٣ بين العثمانيين والبنادقة٦ بسبب هروب أحد الرقيق إلى كورون التابعة لهم، وامتناعهم عن تسليمه بحجة أنه اعتنق الدين المسيحي، فاتخذ العثمانيون ذلك سببًا للاستيلاء على مدينة أرجوس وغيرها، فاستنجد البنادقة بحكومتهم، وهي أرسلت إليهم عمارة بحرية أنزلت ما بها من الجيوش إلى بلاد مورة، فثار سكانها وقاتلوا الجنود العثمانية المحافظة على بلادهم، وأقاموا ما كان تهدَّم من سور برزخ كورنته لمنع وصول المدد من الدولة العلية، وحاصروا مدينة كورنته نفسها، واستخلصوا مدينة أرجوس من الأتراك، لكن لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده ثمانين ألف مقاتل تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد مورة بدون كبير معارضة، واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد. وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرَّة على بلاد مورة بدون فائدة.
وبعد ذلك أخذ البابا بيوس الثاني يسعى في تحريض الأمم المسيحية على محاربة المسلمين حربًا دينية، لكن عاجله المنون قبل إتمام مشروعه، إلا أن تحريضاته هاجت إسكندر بك الألباني، فحارب الجنود العثمانية وحصل بينهما عدَّة وقائع أهرق فيها كثير من الدماء، وكانت الحرب فيها سجالًا. وفي سنة ١٤٦٧ توفي إسكندر بك بعد أن حارب الدولة العلية خمسًا وعشرين سنة بدون أن تقوى على قمعه، فكان من أشدِّ خصوم الدولة وألدِّ أعدائها.

ثم بعد هدنة استمرَّت سنة واحدة عادت الحروب بين العثمانيين والبنادقة، وكانت نتيجتها أن افتتح العثمانيون جزيرة نجر بونت، وتسمى في كتب الترك أجريبوس؛ مركز مستعمرات البنادقة في جزائر الروم، وتم فتحها في سنة ١٤٧٠، وبعد أن ساد الأمن في أنحاء أوروبا حوَّل السلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بآسيا الصغرى، ووجد سبيلًا سهلًا للتدخل، وهو أن أميرها المدعو إبراهيم أوصى بعد موته بالحكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحاق، ولكون أمه أم ولد نازعه الحكم إخوته من أبيه الذين من الزوجات، فتداخل السلطان محمد الثاني وحارب إسحاق وهزمه، وولى محله أكبر إخوته، وعاد إلى أوروبا لمحاربة إسكندر بك كما مرَّ، فانتهز الأمير إسحاق غيابه وعاود الكرَّة على قونية لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد فرجع إليه السلطان وقهره، وليستريح باله من هذه الجهة أيضًا ضم إمارة القرمان إلى بلاده وغضب على وزيره محمود باشا الذي عارضه في هذا الأمر.

وبعد ذلك بقليل زحف «أوزون حسن» أحد خلفاء تيمورلنك الذي كان سلطانه ممتدًّا على كافة البلاد والأقاليم الواقعة بين نهريْ آموداريا والفرات وفتح مدينة توقات عنوة ونهب أهلها، فأخذ السلطان في تجهيز جيش جرَّار، وأرسل لأولاده داود باشا بكلر بك الأناطول ومصطفى باشا حاكم القرمان يأمرهما بالمسير لمحاربة العدوِّ؛ فسارا بجيوشهما إليه وقابلا جيش أوزون حسن على حدود إقليم الحميد وهزماه شرَّ هزيمة (١٤٧١).

وبعدها بقليل سار إليه السلطان بنفسه ومعه مائة ألف جندي، وأجهز على ما بقي معه من الجنود بالقرب من مدينة أذربيجان التي لا تبعد كثيرًا عن نهر الفرات، ولم يَعُدْ أوزون حسن لمحاربة الدولة بعد ذلك. وفي هذه الأثناء كانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين استعانوا ببابا رومة وأمير نابولي، ومع كلٍّ فكان النصر دائمًا للعثمانيين، ولم يتمكن البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم. وفي سنة ١٤٧٥ أراد السلطان فتح بلاد البغدان، فأرسل إليها جيشًا بعد أن عرض دفع الجزية على أميرها المسمى إسطفن الرابع ولم يقبل.

وبعد محاربة عنيفة قتل فيها كثير من الجيشين المتحاربين عادت الجيوش العثمانيين بدون فتح شيء من هذا الإقليم، ولما بلغ خبر هذا الانهزام آذان السلطان عزم على فتح بلاد القرم حتى يستعين بفرسانها المشهورين في القتال على محاربة البغدان، وكان لجمهورية جنوا مستعمرة في بحيث جزيرة القرم، في مدينة كافا، فأرسل السلطان إليها عمارة بحرية ففتحتها بعد حصار ستة أيام، وبعدها سقطت جميع الأماكن التابعة لجمهورية جنوا. وبذلك صارت جميع شواطئ القرم تابعة للدولة العثمانية ولم يقاومها التتار النازلون بها، ولذلك اكتفى السلطان بضرب الجزية عليها.

وبعد ذلك فتحت العمارة العثمانية ميناء آق كرمان، ومنها أقلعت السفن الحربية إلى مصاب نهر الدانوب لإعادة الكرَّة على بلاد البغدان، بينما كان السلطان يجتاز نهر الدانوب من جهة البر بجيش عظيم، فتقهقر أمامه جيش البغدان لعدم إمكانه المحاربة في السهول، وتبعه الجيش العثماني، حتى إذا أوغل خلفه في غابة كثيفة يجهل مفاوزها انقضَّ عليه الجيش البغداني وهزمه (١٤٧٦)، وبذلك اشتهر إسطفن الرابع — أمير البغدان — بمقاومة العثمانيين، كما اشتهر هونياد المجري وإسكندر بك الألباني من قبل وسماه البابا شجاع النصرانية وحامي الديانة المسيحية.

وفي سنة ١٤٧٧ أغار السلطان على بلاد البنادقة، ووصل إلى إقليم الفريول بعد أن مَرَّ بإقليميْ كرواسيا ودلماسيا (وهما تابعان الآن لمملكة النمسا والمجر)؛ فخاف البنادقة على مدينتهم الأصلية، وأبرموا الصلح معه تاركين له مدينة كرويا، التي كانت عاصمة إسكندر بك الشهير، فاحتلها السلطان ثم طلب منهم مدينة أشقودرة.٧ ولما رفضوا التنازل عنها إليه حاصرها وأطلق عليها مدافعه ستة أسابيع متوالية بدون أن يُضعِف قوة سكانها وشجاعتهم، فتركها لفرصة أخرى وفتح ما كان حولها للبنادقة من البلاد والقلاع حتى صارت مدينة أشقودرة منفصلة بالكلية عن باقي بلاد البنادقة، وكان لا بد من فتحها بعد قليل لعدم إمكان وصول المدد إليها؛ ولذا فضَّل البنادقة أن يبرموا صلحًا جديدًا مع السلطان ويتنازلوا عن أشقودرة في مقابلة بعض امتيازات تجارية. وتم الصلح بين الفريقين على ذلك، وأمضيت به بينهما معاهدة في يوم ٥ ذي القعدة سنة ٨٨٣ (الموافق ٢٦ يناير سنة ١٤٧٩)، وكانت هذه أول خطوة خطتها الدولة العثمانية للتداخل في شئون أوروبا؛ إذ كانت جمهورية البنادقة حين ذاك أهم دول أوروبا لا سيما في التجارة البحرية، وما كان يعادلها في ذلك إلا جمهورية جنوا.
 
السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح وفتح القسطنطينية
ولد هذا السلطان في ٢٦ رجب سنة ٨٣٣ (٢٠ أبريل سنة ١٤٢٩). وهو سابع سلاطين هذه السلالة الملوكية. ولما تولى الملك بعد أبيه لم يكن بآسيا الصغرى خارجًا عن سلطانه إلَّا جزء من بلاد القرمان ومدينة سينوب١ ومملكة طرابزون الرومية.٢ وصارت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها، وكان إقليم «مورة» مجزَّأً بين البنادقة وعدة إمارات صغيرة يحكمها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلَّفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحروب الصليبية، وبلاد الأرنئود وإيبيروس في حمى إسكندر بك السالف الذكر، وبلاد البشناق «البوسنة» مستقلة والصرب تابعة للدولة العلية تابعية سيادية، وما بقي من بحيث جزيرة البلقان داخلًا تحت سلطة الدولة العلية.
وبعد أن أمر بنقل جثة والده إلى مدينة بورصة لدفنها بها أمر بقتل أخٍ له رضيع اسمه أحمد، وبإرجاع الأميرة مارا الصربية إلى والدها. ثم أخذ يستعدُّ لتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان ومدينة القسطنطينية؛ حتى تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو مهاجم أو صديق منافق. لكنه قبل التعرض لفتح القسطنطينية أراد أن يحصِّن بوغاز البوسفور؛ حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون، وذلك بأن يقيم قلعة على شاطئ البوغاز من جهة أوروبا تكون مقابلة للحصن الذي أنشأه السلطان بايزيد يلدرم ببر آسيا. ولما بلغ ملك الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيرًا يعرض عليه دفع الجزية التي يقررها، فرفض طلبه وسعى في إيجاد سبب لفتح باب الحرب، ولم يلبث أن وجد هذا السبب بتعدِّي الجنود العثمانية على بعض قرى الروم ودفاع هؤلاء عن أنفسهم وقتل البعض من الفريقين.

فحاصر السلطان المدينة في أوائل أبريل سنة ١٤٥٣ من جهة البر بجيش يبلغ المائتين وخمسين ألف جندي، ومن جهة البحر بعمارة مؤلفة من مائة وثمانين سفينة، وأقام حول المدينة أربع عشرة بطارية طوبجية وضع بها مدافع جسيمة صنعها صانع مجري شهير اسمه «أوربان» كانت تقذف كرات من الحجر زنة كل واحدة منها اثنا عشر قنطارًا إلى مسافة ميل، وفي أثناء الحصار اكتشف قبر أبي أيوب الأنصاري الذي استشهد حين حصار القسطنطينية في سنة ٥٢ﻫ في خلافة معاوية بن أبي سفيان الأموي، وبعد الفتح بني له مسجد جامع، وجرت العادة بعد ذلك أن كل سلطان يتولى يتقلد سيف عثمان الغازي الأول بهذا المسجد، وهذا الاحتفال يعد بمثابة التتويج عند ملوك الإفرنج، ولم تزل هذه العادة متبعة حتى الآن. ولما شاهد قسطنطين آخر ملوك الروم هذه الاستعدادات استنجد بأوروبا؛ فلبَّى طلبه أهالي جنوة،٣ وأرسلوا له عمارة بحرية تحت إمرة جوستنياني، فأتى بمراكبه وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فعارضته السفن العثمانية، وانتشرت بينهما حرب هائلة في يوم ١١ ربيع الثاني سنة ٨٥٧ (الموافق ٢١ أبريل سنة ١٤٥٣) انتهت بفوز جوستنياني ودخوله الميناء بعد أن رفع المحصورون السلاسل الحديدية التي وضعت لمنع المراكب العثمانية من الوصول إليها، ثم أعيدت بعد مروره كما كانت.
وبعدها أخذ السلطان يفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار برًّا وبحرًا؛ فخطر بباله فكر غريب في بابه، وهو أن ينقل المراكب على البر ليجتازوا السلاسل الموضوعة لمنعه، وتم هذا الأمر المستغرب بأن مهَّد طريقًا على البر اختُلف في طوله، والمرجَّح أنه فرسخان؛ أي ستة أميال، ورصت فوقه ألواح من الخشب صُبَّتْ عليها كمية من الزيت والدهن لسهولة زلق المراكب عليها، وبهذه الكيفية أمكن نقل نحو السبعين سفينة في ليلة واحدة، حتى إذا أصبح النهار ونظرها المحصورون أيقنوا أن لا مَنَاصَ من نصر العثمانيين عليهم، لكن لم تخمد عزائمهم، بل ازدادوا إقدامًا، وصمموا على الدفاع عن أوطانهم حتى الممات.

وفي يوم ١٥ جمادى الأولى سنة ٨٥٧ (الموافق ٢٤ مايو سنة ١٤٥٣) أرسل السلطان محمد إلى قسطنطين يخبره أنه لو سلم البلد إليه طوعًا يتعهَّد له بعدم مس حرية الأهالي أو أملاكهم، وأن يعطيه جزيرة مورة؛ فلم يقبل قسطنطين ذلك، بل آثر الموت على تسليم المدينة، فعند ذلك نبَّه السلطان على جيوشه بالاستعداد للهجوم في يوم ٢٠ جمادى الأولى سنة ٨٥٧ (الموافق ٢٩ مايو سنة ١٤٥٣)، ووعد الجيوش بمكافأتهم عند تمام النصر وبإقطاعهم أراضيَ كثيرة.

وفي الليلة السابقة لليوم المحدَّد أشعلت الجنود العثمانية الأنوار أمام خيامها للاحتفال بالنصر المحقق لديهم، وظلوا طول ليلهم يهللون ويكبرون، حتى إذا لاح الفجر صدرت إليهم الأوامر بالهجوم، فهجم مائة وخمسون ألف جندي وتسلَّقوا الأسوار حتى دخلوا المدينة من كل فجٍّ، وأعملوا السيف في من عارضهم، ودخلوا كنيسة القديسة صوفيا حيث كان يصلي فيها البطريق وحوله عدد عظيم من الأهالي، ويعتقد الروم حتى الآن أن حائط الكنيسة انشقَّ ودخل فيه البطرق والصور المقدَّسة، وفي اعتقادهم أن الحائط تنشق ثانية يوم يخرج الأتراك من القسطنطينية ويخرج البطرق منها ويتم صلاته التي قطعها عند دخول العثمانيين عليه عند الفتح. وقد أرَّخ بعضهم هذا الفتح المبين (بلدة طيبة) سنة ٨٥٧، وسميت المدينة إسلامبول؛ أي تخت الإسلام أو مدينة الإسلام.

أما قسطنطين فقاتل حتى مات في الدفاع عن وطنه. وبعد فتحها جعلت عاصمة للدولة ولن تزال كذلك إن شاء الله، ولنذكر هنا أن المسلمين حاصروا القسطنطينية إحدى عشرة مرة قبل هذه المرة الأخيرة، منها سبعة في القرنين الأوَّلين للإسلام، فحاصرها معاوية في خلافة سيدنا عليٍّ سنة ٣٤ﻫ (٦٥٤م)، وحاصرها يزيد بن معاوية سنة ٤٧ﻫ (٦٦٧م) في خلافة سيدنا عليٍّ أيضًا، وحاصرها سفيان بن أوس في خلافة معاوية سنة ٥٢ﻫ (٦٧٢م)، وفي سنة ٩٧ﻫ (٧١٥م) حاصرها مسلمة في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز الأموي، وحوصرت أيضًا في خلافة هشام سنة ١٢١ﻫ (٧٣٩م)، وفي المرَّة السابعة حاصرها أحد قوَّاد الخليفة هارون الرشيد سنة ١٨٢ﻫ (٧٦٨م).

هذا؛ ثم دخل السلطان المدينة عند الظهر فوجد الجنود مشتغلة بالسلب والنهب وغيره؛ فأصدر أوامره بمنع كل اعتداء؛ فَسَادَ الأمن حالًا، ثم زار كنيسة أيا صوفيا وأمر بأن يؤذن فيها بالصلاة إعلانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمين. وبعد تمام الفتح على هذه الصورة أعلن في كافة الجهات بأنه لا يعارض في إقامة شعائر ديانة المسيحيين، بل إنه يضمن لهم حرية دينهم وحفظ أملاكهم، فرجع من هاجر من المسيحيين، وأعطاهم نصف الكنائس، وجعل النصف الآخر جوامع للمسلمين، ثم جمع أئمة دينهم لينتخبوا بطريقًا لهم فاختاروا جورج سكولاريوس، واعتمد السلطان هذا الانتخاب وجعله رئيسًا لطائفة الأروام، واحتفل بتثبيته بنفس الأبهة والنظام الذي كان يُعمل للبطارقة في أيام ملوك الروم المسيحيين، وأعطاه حرسًا من عساكر الانكشارية، ومنحه حق الحكم في القضايا المدنية والجنائية بكافة أنواعها المختصة بالأروام، وعين معه في ذلك مجلسًا مشكَّلًا من أكبر موظفي الكنيسة، وأعطى هذا الحق في الولايات للمطارنة والقسوس. وفي مقابلة هذه المنح فرض عليهم دفع الخراج مستثنيًا من ذلك أئمة الدين فقط.

وبعد إتمام هذه الترتيبات وإعادة ما هدم من أسوار المدينة وتحصينها، سافر بجيوشه لفتح بلاد جديدة، فقصد بلاد مورة، لكن لم ينتظر أميراها دمتريوس وتوماس أَخَوَا قسطنطين قدومه، بل أرسلا إليه يخبرانه بقبولهما دفع جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دوكا، فقبل ذلك السلطان وغيَّر وجهته قاصدًا بلاد الصرب، فأتى هونياد الشجاع المجري وردَّ عنهم مقدمة الجيوش العثمانية، لكن لم يرغب الصرب في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم؛ حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا رومة والصرب أرثوذكسيين لا يُذعِنون لسلطة البابا، بل كانوا يفضلون تسلط المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرُّضهم للدين مطلقًا. ولذلك أبرم أمير الصرب الصلح مع السلطان محمد الثاني على أن يدفع له سنويًّا ثمانين ألف دوكا، وذلك في سنة ١٤٥٤، وفي السنة التالية أعاد السلطان عليها الكرَّة بجيش مؤلف من خمسين ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ومر بجيوشه من جنوب بلاد الصرب إلى شمالها بدون أن يلقى أقل معارضة، حتى وصل مدينة بلغراد الواقعة على نهر الدانوب، وحاصرها من جهة البر والنهر.

وكان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها دفاع الأبطال حتى يئس السلطان من فتحها ورفع عنها الحصار سنة ١٤٥٥، لكن وإن لم يتمكَّن العثمانيون من فتح عاصمة الصرب إلا أنهم ربحوا أمرًا عظيمًا، وهو إصابة هونياد بجراح بليغة مات بسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بنحو عشرين يومًا وأراح المسلمين منه، ولما علم السلطان بموته أرسل الصدر الأعظم محمود باشا لإتمام فتح بلاد الصرب؛ فأتمَّ فتحها من سنة ١٤٥٨ إلى سنة ١٤٦٠، وبذلك فقدت الصرب استقلالها نهائيًّا بعد أن أعيت الدولة العلية أكثر من مرة.

وفي هذه الأثناء تَمَّ فتح بلاد مورة، ففي سنة ١٤٥٨ فتح السلطان مدينة كورنته وما جاورها من بلاد اليونان، حتى جرد توماس باليولوج أخا قسطنطين من جميع بلاده، ولم يترك إقليم مورة لأخيه دمتريوس إلا بشرط دفع الجزية.

وبمجرَّد ما رجع السلطان بجيوشه ثار توماس وحارب الأتراك وأخاه معًا؛ فاستنجد دمتريوس بالسلطان، فرجع بجيش عرمرم ولم يرجع حتى تَمَّ فتح إقليم مورة سنة ١٤٦٠، وهرب توماس إلى إيطاليا، ونُفِيَ دمتريوس في إحدى جزائر الأرخبيل.

وفي ذلك الوقت فتحت جزائر تاسوس والبروس وغيرها من جزائر بحر الروم.

وبعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحًا مؤقتًا مع إسكندر بك وترك له إقليميْ ألبانيا وإيبيروس، ثم حوَّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، فسار بجيشه بدون أن يعلم أحدًا بوجهته في أوائل سنة ١٤٦١، وهاجم أوَّلًا ميناء أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جينوة النازلين بهذه الأصقاع. ولكون سكانها تجارًا يحافظون على أموالهم ولا يهمهم دين أو جنسية متبوعهم ما دام غير متعرِّض لأموالهم ولا أرواحهم فتحوا أبواب المدينة ودخلها العثمانيون بغير حرب، ثم أرسل إلى أسفنديار — أمير مدينة سينوب — يطلب منه تسليم بلده والخضوع له. ولأجل تعزيز هذا الطلب أرسل أحد قوَّاده ومعه عدد عظيم من المراكب لحصر الميناء فسلمها إليه الأمير وأقطعه الملك أراضي واسعة بإقليم بيثينيا مكافأة له على خضوعه. ثم قصد بنفسه مدينة طرابزون ودخلها بدون مقاومة شديدة، وقبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى القسطنطينية.

ولما عاد إليها جهَّز جيشًا لمحاربة أمير الفلاخ المدعو فلاددره قول؛ أي الشيطان، لمعاقبته على ما ارتكبه من الفظائع مع أهالي بلاده والتعدِّي على تجَّار العثمانيين النازلين بها. فلما قرب منها أرسل إليه هذا الأمير وفدًا يعرض على السلطان دفع جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكا، بشرط أن يصادق على جميع الشروط الواردة بالمعاهدة التي أبرمت في سنة ١٣٩٣ بين أمير الفلاخ إذ ذاك والسلطان بايزيد، فقبل السلطان محمد الثاني هذا الاقتراح وعاد بجيوشه، ولم يقصد أمير الفلاخ بهذه المعاهدة إلا التمكن من الاتحاد مع ملك المجر ومحاربة العثمانيين، فلما علم السلطان باتحادهما أرسل إليه مندوبين يسألانه عن الحقيقة فقبض عليهما وقتلهما بوضعهما على عمود محدَّد من الخشب (خازوق). وأغار بعدها على بلاد بلغاريا التابعة للدولة العلية، وعثا فيها الفساد، ورجع بخمسة وعشرين ألف أسير، فأرسل إليه السلطان يدعوه إلى الطاعة وإخلاء سبيل الأسرى، فلما مثل الرسل أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه وعند إبائهم طلبه لمخالفته لعوائدهم، أمر هذا الظالم بأن تسمر عمائمهم على رءوسهم بمسامير من حديد.

فلما وصلت هذه الأخبار إلى السلطان محمد استشاط غضبًا وسار على الفور بمائة وخمسين ألف مقاتل لمحاربة هذا الشقي الظلوم، فوصل في أقرب وقت إلى مدينة بخارست٤ عاصمة الأمير بعد أن هزمه وفرَّق جيوشه، لكنه لم يتمكَّن من القبض عليه لمجازاته على ما اقترفه من المظالم والمآثم لهروبه والتجائه إلى ملك المجر، فنادى السلطان بعزله ونصب مكانه أخاه راوول لثقته به بما أنه تربى في حضانة السلطان مند نعومة أظفاره، وبذا ضمت بلاد الفلاخ إلى الدولة العلية، ويقال إنه عند وصول السلطان محمد إلى ضواحي بخارست وجد حول المدينة جثث الأسرى الذين أتى بهم أمير الفلاخ من بلاد بلغاريا وقتلهم عن آخرهم بما فيهم الأطفال والنساء، وكان عددهم جميعًا عشرين ألفًا.
وفي سنة ١٤٦٢ حارب السلطان بلاد بوسنة لامتناع أميرها عن دفع الخراج، وأسره بعد محاربة عنيفة هو وولده، وأمر بقتلهما، فدانت له جميع بلاد البشناق (أهالي بوسنة). وفي سنة ١٤٦٤ أراد متياس كرفن٥ ملك المجر استخلاص بوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتِلَ معظم جيشه، وكانت عاقبة تداخله أن جعلت بوسنة ولاية كباقي ولايات الدولة، وسلبت ما كان منح لها من الامتيازات، ودخل في جيش الانكشارية ثلاثون ألفًا من شبانها، وأسلم أغلب أشراف أهاليها.
هذا؛ وكانت ابتدأت حركات العدوان في سنة ١٤٦٣ بين العثمانيين والبنادقة٦ بسبب هروب أحد الرقيق إلى كورون التابعة لهم، وامتناعهم عن تسليمه بحجة أنه اعتنق الدين المسيحي، فاتخذ العثمانيون ذلك سببًا للاستيلاء على مدينة أرجوس وغيرها، فاستنجد البنادقة بحكومتهم، وهي أرسلت إليهم عمارة بحرية أنزلت ما بها من الجيوش إلى بلاد مورة، فثار سكانها وقاتلوا الجنود العثمانية المحافظة على بلادهم، وأقاموا ما كان تهدَّم من سور برزخ كورنته لمنع وصول المدد من الدولة العلية، وحاصروا مدينة كورنته نفسها، واستخلصوا مدينة أرجوس من الأتراك، لكن لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده ثمانين ألف مقاتل تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد مورة بدون كبير معارضة، واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد. وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرَّة على بلاد مورة بدون فائدة.
وبعد ذلك أخذ البابا بيوس الثاني يسعى في تحريض الأمم المسيحية على محاربة المسلمين حربًا دينية، لكن عاجله المنون قبل إتمام مشروعه، إلا أن تحريضاته هاجت إسكندر بك الألباني، فحارب الجنود العثمانية وحصل بينهما عدَّة وقائع أهرق فيها كثير من الدماء، وكانت الحرب فيها سجالًا. وفي سنة ١٤٦٧ توفي إسكندر بك بعد أن حارب الدولة العلية خمسًا وعشرين سنة بدون أن تقوى على قمعه، فكان من أشدِّ خصوم الدولة وألدِّ أعدائها.

ثم بعد هدنة استمرَّت سنة واحدة عادت الحروب بين العثمانيين والبنادقة، وكانت نتيجتها أن افتتح العثمانيون جزيرة نجر بونت، وتسمى في كتب الترك أجريبوس؛ مركز مستعمرات البنادقة في جزائر الروم، وتم فتحها في سنة ١٤٧٠، وبعد أن ساد الأمن في أنحاء أوروبا حوَّل السلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بآسيا الصغرى، ووجد سبيلًا سهلًا للتدخل، وهو أن أميرها المدعو إبراهيم أوصى بعد موته بالحكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحاق، ولكون أمه أم ولد نازعه الحكم إخوته من أبيه الذين من الزوجات، فتداخل السلطان محمد الثاني وحارب إسحاق وهزمه، وولى محله أكبر إخوته، وعاد إلى أوروبا لمحاربة إسكندر بك كما مرَّ، فانتهز الأمير إسحاق غيابه وعاود الكرَّة على قونية لاسترداد ما أوصى به إليه أبوه من البلاد فرجع إليه السلطان وقهره، وليستريح باله من هذه الجهة أيضًا ضم إمارة القرمان إلى بلاده وغضب على وزيره محمود باشا الذي عارضه في هذا الأمر.

وبعد ذلك بقليل زحف «أوزون حسن» أحد خلفاء تيمورلنك الذي كان سلطانه ممتدًّا على كافة البلاد والأقاليم الواقعة بين نهريْ آموداريا والفرات وفتح مدينة توقات عنوة ونهب أهلها، فأخذ السلطان في تجهيز جيش جرَّار، وأرسل لأولاده داود باشا بكلر بك الأناطول ومصطفى باشا حاكم القرمان يأمرهما بالمسير لمحاربة العدوِّ؛ فسارا بجيوشهما إليه وقابلا جيش أوزون حسن على حدود إقليم الحميد وهزماه شرَّ هزيمة (١٤٧١).

وبعدها بقليل سار إليه السلطان بنفسه ومعه مائة ألف جندي، وأجهز على ما بقي معه من الجنود بالقرب من مدينة أذربيجان التي لا تبعد كثيرًا عن نهر الفرات، ولم يَعُدْ أوزون حسن لمحاربة الدولة بعد ذلك. وفي هذه الأثناء كانت الحرب متقطعة بين العثمانيين والبنادقة الذين استعانوا ببابا رومة وأمير نابولي، ومع كلٍّ فكان النصر دائمًا للعثمانيين، ولم يتمكن البنادقة من استرجاع شيء مما أخذ منهم. وفي سنة ١٤٧٥ أراد السلطان فتح بلاد البغدان، فأرسل إليها جيشًا بعد أن عرض دفع الجزية على أميرها المسمى إسطفن الرابع ولم يقبل.

وبعد محاربة عنيفة قتل فيها كثير من الجيشين المتحاربين عادت الجيوش العثمانيين بدون فتح شيء من هذا الإقليم، ولما بلغ خبر هذا الانهزام آذان السلطان عزم على فتح بلاد القرم حتى يستعين بفرسانها المشهورين في القتال على محاربة البغدان، وكان لجمهورية جنوا مستعمرة في بحيث جزيرة القرم، في مدينة كافا، فأرسل السلطان إليها عمارة بحرية ففتحتها بعد حصار ستة أيام، وبعدها سقطت جميع الأماكن التابعة لجمهورية جنوا. وبذلك صارت جميع شواطئ القرم تابعة للدولة العثمانية ولم يقاومها التتار النازلون بها، ولذلك اكتفى السلطان بضرب الجزية عليها.

وبعد ذلك فتحت العمارة العثمانية ميناء آق كرمان، ومنها أقلعت السفن الحربية إلى مصاب نهر الدانوب لإعادة الكرَّة على بلاد البغدان، بينما كان السلطان يجتاز نهر الدانوب من جهة البر بجيش عظيم، فتقهقر أمامه جيش البغدان لعدم إمكانه المحاربة في السهول، وتبعه الجيش العثماني، حتى إذا أوغل خلفه في غابة كثيفة يجهل مفاوزها انقضَّ عليه الجيش البغداني وهزمه (١٤٧٦)، وبذلك اشتهر إسطفن الرابع — أمير البغدان — بمقاومة العثمانيين، كما اشتهر هونياد المجري وإسكندر بك الألباني من قبل وسماه البابا شجاع النصرانية وحامي الديانة المسيحية.

وفي سنة ١٤٧٧ أغار السلطان على بلاد البنادقة، ووصل إلى إقليم الفريول بعد أن مَرَّ بإقليميْ كرواسيا ودلماسيا (وهما تابعان الآن لمملكة النمسا والمجر)؛ فخاف البنادقة على مدينتهم الأصلية، وأبرموا الصلح معه تاركين له مدينة كرويا، التي كانت عاصمة إسكندر بك الشهير، فاحتلها السلطان ثم طلب منهم مدينة أشقودرة.٧ ولما رفضوا التنازل عنها إليه حاصرها وأطلق عليها مدافعه ستة أسابيع متوالية بدون أن يُضعِف قوة سكانها وشجاعتهم، فتركها لفرصة أخرى وفتح ما كان حولها للبنادقة من البلاد والقلاع حتى صارت مدينة أشقودرة منفصلة بالكلية عن باقي بلاد البنادقة، وكان لا بد من فتحها بعد قليل لعدم إمكان وصول المدد إليها؛ ولذا فضَّل البنادقة أن يبرموا صلحًا جديدًا مع السلطان ويتنازلوا عن أشقودرة في مقابلة بعض امتيازات تجارية. وتم الصلح بين الفريقين على ذلك، وأمضيت به بينهما معاهدة في يوم ٥ ذي القعدة سنة ٨٨٣ (الموافق ٢٦ يناير سنة ١٤٧٩)، وكانت هذه أول خطوة خطتها الدولة العثمانية للتداخل في شئون أوروبا؛ إذ كانت جمهورية البنادقة حين ذاك أهم دول أوروبا لا سيما في التجارة البحرية، وما كان يعادلها في ذلك إلا جمهورية جنوا.

فتح جزائر اليونان ومدينة أوترانت
وبعد أن تم الصلح مع البنادقة وجهت الجيوش إلى بلاد المجر لفتح إقليم ترنسلفانيا، فقهرها كينيس كونت مدينة تمسوار،٨ بالقرب من مدينة كرلسبرج في ١٣ أكتوبر سنة ١٤٧٦، وقتل في هذه الموقعة كثير من العثمانيين، وارتكب المجر فظائع وحشية بعد الانتصار، فقتلوا جميع الأسرى ونصبوا موائدهم على جثثهم. وفي سنة ١٤٨٠ فتحت جزائر اليونان الواقعة بين بلاد اليونان وإيطاليا، وبعدها سار القائد كدك أحمد باشا بمراكبه لفتح مدينة أوترانت٩ بإيطاليا التي كان عزم السلطان على فتحها جميعها، ويقال إنه أقسم بأن يربط حصانه في كنيسة القديس بطرس بمدينة رومة — مقر البابا — ففتحت مدينة أوترانت عنوة في يوم ٤ جمادى الآخرة سنة ٨٥٥ (الموافق ١١ أغسطس سنة ١٤٨٠).
حصار مدينة رودس
وفي هذا الحين كانت أرسلت عمارة بحرية أخرى لفتح جزيرة رودس،١٠ التي كانت مركز رهبنة القديس حنا الأورشليمي، وكان رئيسها إذ ذاك بيير دوبوسون الفرنساوي الأصل، وكانت الحرب قائمة بينه وبين سلطان مصر وباي تونس، فاجتهد في إبرام الصلح معهما ليتفرغ لصدِّ هجمات الجيوش العثمانية، وكانت هذه الجزيرة محصنة تحصينًا منيعًا، وابتدأ العثمانيون في حصارها في يوم ١٣ ربيع الأوَّل سنة ٨٨٥ (الموافق ٢٣ مايو سنة ١٤٨٠)، وظلت المدافع تقذف عليها القنابل الحجرية تهدِّم أسوارها، لكن كان يصلح سكانها في الليل كل ما تخربه المدافع بالنهار؛ ولذلك استمر حصارها ثلاثة أشهر حاول العثمانيون في خلالها الاستيلاء على أهمِّ قلاعها واسمها قلعة القديس نيقولا بدون نتيجة. وفي يوم ٢٠ جمادى الأولى سنة ٨٨٥ (الموافق ٢٨ يوليو سنة ١٤٨٠) أمر القائد العام بالهجوم على القلعة ودخولها من الفتحة التي فتحتها المدافع في أسوارها، فهجمت عليها الجيوش وقاومها الأعداء بكل بسالة وإقدام، وبعد أخذ وردٍّ تقهقر العثمانيون بعد أن قتل وجرح منهم كثيرون ورفع الباقون عنها الحصار.
وفي يوم ٤ ربيع الأوَّل سنة ٨٨٦ﻫ (الموافق ٣ مايو سنة ١٤٨١م) توفي أبو الفتح السلطان محمد الثاني الغازي عن ثلاث وخمسين سنة، ومدة حكمه ٣١ سنة تمم في خلالها مقاصد أجداده، ففتح القسطنطينية وزاد عليها فتح مملكة طرابزون الرومية والصرب والبوشناق وألبانيا (الأرنئود) وجميع أقاليم آسيا الصغرى، ولم يبقَ في بلاد البلقان إلا مدينة بلغراد التابعة للمجر وبعض جزائر تابعة للبنادقة. ودفن في المدفن المخصوص الذي أنشأه في أحد الجوامع التي أسَّسَها في الآستانة.
ترتيباته الداخلية
وكانت مهارة هذا السلطان في الأعمال المدنية تُعادل خبرته في الأعمال الحربية، فإليه ينسب ترتيب الحكومة على نظامات جديدة، فسمى نفس الحكومة العثمانية بالباب العالي، وجعل لها أربعة أركان وهي: الوزير وقاضي عسكر والدفتردار (وتعادل اختصاصاته اختصاصات ناظر المالية الآن)، والرابع يسمى نيشانجي (وهو عبارة عن كاتب سرِّ السلطان)، ثم بعد امتداد سلطة الدولة العلية في جهة أوروبا جعل لها قاضي عسكر مخصوص اسمه قاضي عسكر الروملي وقاضي عسكر آخر للأناطول، وكان اختصاصهما التعيين في وظائف القضاء ما عدا بعض وظائف خصوصية، يختص بها الوزير الأكبر. ثم رتب وظائف الجند فجعل للانكشارية رئيسًا مخصوصًا (أغا)، وناطه بأشغال الضبط والربط بمدينة القسطنطينية ورئيسًا آخر للطوبجية، وثالثًا لما يختص بذخائر ومؤنة الجيوش. وكذلك وضع ترتيبًا لداخليته الخصوصية وأهم أعماله المدنية ترتيب وظائف القضاء من أكبر وظيفة وهي قضاء الروملي إلى أقل وظيفة. ووضع أوَّل مبادئ القانون المدني وقانون العقوبات، فأبدل العقوبات البدنية؛ أي السنُّ بالسنِّ والعين بالعين، وجعل عوضها الغرامات النقدية بكيفية واضحة أتمَّها السلطان سليمان القانوني الآتي ذكره.
ومن مآثره أيضًا عدة جوامع في القسطنطينية وغيرها، وله اليد البيضاء في إنشاء كثير من المكاتب الابتدائية والمدارس العالية مما يطول شرحه.

١ مدينة حصينة في شمال الأناطول على البحر الأسود، بها ميناء متسعة اتخذتها الدولة العلية ملجأً لسفنها الحربية، وشهيرة بما ارتكبته الروسيا فيها من تدمير الدونانمة العثمانية سنة ١٨٥٣ قبل إعلان الحرب المعروفة بحرب القرم.
٢ مدينة قديمة بآسيا على البحر الأسود، تبعد ١٤٠ كيلومترًا عن مدينة أوضروم، ويظن أنها معاصرة لمدينة تروادة الشهيرة، واسمها مشتق من لفظة «ترابيزوس» اللاتينية، ومعناها الشكل المعين. ولما انقسمت المملكة الرومانية إلى شرقية وغربية ظلت تابعة للمملكة الشرقية إلى سنة ١٢٠٤م، حيث فتحها الإفرنج الذين أتوا أثناء حرب الصليب، ثم سكنها أحد أعضاء عائلة «الكومين». وأسست بها مملكة طرابزون التي استمرت مستقلة، ولو أنها تابعة اسمًا إلى مملكة الروم بالقسطنطينية، إلى أن فتحها العثمانيون سنة ١٤٦١، وقتلوا آخر ملوكها المدعو «داود» وستة من أولاده، وكان له ولد سابع في إقليم مورة ببلاد اليونان، ثم هاجر إلى جزيرة «كورسيكا». وآخر ذرية هذه العائلة «الدوشيس دي إبرانتيس» التي توفيت سنة ١٨٣٨.
٣ جنوة مدينة قديمة جدًّا يقال إنها أنشئت سنة ٧٠٧ قبل الميلاد، واستولى عليها الرومانيون سنة ٢٢٢ قبل الميلاد، وظلت تابعة لهم لحين سقوط الدولة الرومانية، ثم تناوبتها أيدي قبائل المتبربرين المختلفة. وأخيرًا فتحها شارلمان الفرنساوي المتوفى سنة ٨١٤م، واستقلت في القرن العاشر، واتخذت التجارة مهنة، ونافست جمهوريتيْ بيشه المسماة الآن «بيز» والبندقية المسماة الآن «فنسيا». وفي القرن الثالث عشر حاربت بيشه وتغلبت عليها، ولاشت تجارتها، وأخذت منها جزيرة «كورسيكا»، ثم أعطاها ملوك الروم بالآستانة قريتيْ بيرة وغلطة في ضواحي بيزنطة «القسطنطينية»، ومدينة «كافا» ببلاد القرم، ومدينة أزمير وغيرها؛ ومن ثم وقعت المنافسة بينها وبين البنادقة؛ بسبب السيادة على البحار، وحاربتها وانتصرت عليها مرارًا، وبقيت سيدة البحار الشرقية إلى أواخر القرن الرابع عشر، ثم أخذت في التقهقر شيئًا فشيئًا؛ بسبب عدم انتظام أمورها الداخلية، وتفرق كلمة أهلها؛ ففقدت استقلالها، وصارت تدخل تارة في حمى إسبانيا، وأخرى في حمى فرنسا؛ وطورًا ترجع إلى استقلالها، إلى أن احتلَّها الفرنساويون سنة ١٧٩٦، وشكلوها بهيئة جمهورية في السنة التالية، وبعد سقوط إمبراطورية نابليون الأول في سنة ١٨١٥؛ ضمت إلى لومباردية، وهي الآن تابعة لمملكة إيطاليا.
٤ وتسمى في الكتب التركية «بكرش»؛ بلدة جميلة جدًّا قديمة العهد، ولم تشتهر إلا بعد المعاهدة التي أبرمت فيها بين الدولة العلية والروسية سنة ١٨١٢، وهي الآن عاصمة مملكة رومانيا المكونة من إمارتي الأفلاق والبغدان.
٥ هو ابن هونياد المجري، ولد سنة ١٤٤٣، وانتخب ملكًا على بلاد المجر سنة ١٤٥٨ وسنه خمس عشرة سنة، واشتهر بمحاربة كافة جيرانه دفاعًا عن استقلال المجر، وأسَّس مدرسة جامعة بمدينة «بوذ»، ومكتبة عمومية، وبنى فيها مرصدًا فلكيًّا، وتوفي سنة ١٤٩٠.
٦ هم سكان مدينة البندقية الواقعة على البحر الأدرياتيكي، وهي أهم الثغور التجارية؛ فإنها فازت في مسابقة جمهورية بيشه ولم تقو على مجاراة جينوة إلا لما استولى عليها الاختلال، وصارت سيدة البحار إلى أن اكتُشف طريق رأس الرجاء الصالح بطرف أفريقا الجنوبي الموصل إلى الهند، واكتشفت قارة أمريكا؛ فتحولت التجارة إلى هذا الطريق الجديد؛ وضعفت البندقية. واشتهرت هذه الجمهورية بمحاربة العثمانيين الذين جردوها من جميع أملاكها شيئًا فشيئًا؛ فأخذ منها السلطان محمد الفاتح جزائر اليونان وما كان لها في بلاد مورة. وفي سنة ١٥٧١ استولى «السلطان سليم الثاني» على جزيرة قبرص، وفي سنة ١٦٦٩ فتح السلطان «محمد الرابع» جزيرة كريد وكانتا تابعتين لها. وفي سنة ١٧٩٧ احتلَّها الفرنساويون، ثم ضمت إلى النمسا، وفي سنة ١٨٠٥ ضمت إلى إيطاليا، وفي سنة ١٨١٥ عادت إلى النمسا، وفي سنة ١٨٤٨ ثارت عليها وتشكلت بهيئة جمهورية، وفي السنة التالية أخضعتها النمسا ثانية لسلطانها، وفي سنة ١٨٥٩ تنازلت عنها النمسا إلى «نابليون الثالث» إمبراطور فرنسا، وهو تنازل عنها إلى فكتور إمانويل — ملك بيمونتي — الذي صار فيما بعد ملك إيطاليا، ولم تزل تابعة لإيطاليا حتى الآن. وقد زرتها في شهر يونيو سنة ١٨٩٥ أثناء سياحتي الأولى بأوروبا.
٧ مدينة قديمة يقال إن مؤسِّسَها إسكندر المقدوني. تَبِعَتْ بلاد ألبانيا «الأرنئود» في تقلباتها السياسية؛ فملكها الصرب، ثم استقلت مدة، ثم امتلكها البنادقة مدة، ثم العثمانيون، ولم تزل تابعة لهم حتى الآن. ويبلغ عدد سكانها خمسة وعشرين ألفًا. وهي عاصمة ولاية أشقودرة.
٨ مدينة ببلاد المجر شهيرة بحصانتها وقوتها، امتلكها العثمانيون من سنة ١٥٥٢ إلى سنة ١٧١٦. وفي سنة ١٦٦٢ أُبْرِمَتْ بها معاهدة بين العثمانيين وإمبراطور النمسا سيأتي ذكرها.
٩ مدينة قديمة بجنوب بلاد إيطاليا، شهيرة باستخراج زيت الزيتون، وسكانها قليلون، وامتلكها العرب مدة.
١٠ جزيرة بالقرب من شاطئ آسيا الصغرى؛ طيبة الهواء، حسنة التربة، كثيرة الفواكه والأزهار، يشتق اسمها من لفظة «رودون» اليونانية، ومعناها الورد. ولحسن مناخها واعتدال طقسها يتنقَّل إليها كثير من أمراء الآستانة ومصر؛ للتنعُّم بمعتدل هوائها، خصوصًا في فصل الصيف، فتحها السلطان سليمان الأول الغازي سنة ١٥٢٢، ولم تزل تابعة للدولة العلية. وكان بها تمثال عظيم الجثة يقال إن ارتفاعه كان يبلغ ثلاثة وثلاثين مترًا هدمته الزلازل في القرن الثالث قبل المسيح.
 
القائمة الجانبية للموقع
خرّيج وتبحث عن عمل؟
تعيينات العراق
هل أنت من عشاق السفر حول العالم؟
إكتشف أجمل الأماكن
هل أنت من عشاق التكنولوجيا؟
جديد التكنولوجيا
عودة
أعلى أسفل