• منتديات شباب الرافدين .. تجمع عراقي يقدم محتوى مميز لجميع طلبة وشباب العراق .. لذا ندعوكم للانضمام الى اسرتنا والمشاركة والدعم وتبادل الافكار والرؤى والمعلومات. فأهلاَ وسهلاَ بكم.

المذكرات الأصلية لفاتن حمامة

ابن الحته

من اهلنا
2020-08-19
3,315
مصر
جوهرة
დ7,802
الجنس
ذكر
في منتصف عام 1956 قررت فاتن حمامة كتابة مذكراتها، ونشرت على حلقات على صفحات مجلة «الكواكب» خلال الفترة من منتصف يونيو وحتى منتصف سبتمبر، وقد ظلت هذه المذكرات مجهولة، بالرغم من أنها نشرت في الثمانينيات في كتاب بعنوان «فاتن والرجال» حمل اسم كاتب لبنانى هو فايز نصار، لم يشر إلى الأصل «المسروق» منه، وطبعت في بيروت في طبعة محدودة، وكان واضحا أن الهدف من نشرها استغلال شعبية عمر الشريف وعلاقة زواجه بفاتن، حتى أن الكتاب حمل صورا لعمر الشريف وبعض «عشيقاته» الأجنبيات دون أن يكون لها علاقة بالمذكرات.
569.jpg



لماذا قررت فاتن حمامة أن تكتب مذكراتها،
ولماذا رفضت بعد ذلك بسنوات،
وحتى وفاتها، العودة من جديد إلى فكرة المذكرات أو حتى الخوض في أي حوارات حول حياتها الشخصية؟


الإجابة على ذلك تكمن في دافعين رئيسيين وراء اتخاذ فاتن لقرار كتابة المذكرات، الأول هو طبيعة الفترة التاريخية، منتصف الخمسينيات، حيث كان نشر الفنانين لمذكراتهم وأسرار حياتهم أمرا معتادا وعاديا ويتقبله المجتمع بتفهم وتسامح، وقد نشرت «الكواكب» و«الإثنين والدنيا» وغيرهما مذكرات الكثير من الفنانات والفنانين مثل تحية كاريوكا ونجيب الريحانى ونجاة الصغيرة ومحمد فوزى وأنور وجدى وغيرهم، وقبل فاتن حمامة كان محمد عبد الوهاب نفسه قد نشر مذكراته على حلقات في «الكواكب» عام 1954.

الدافع الثانى هو أن هذه الفترة كانت مفصلية في شعبية ومسيرة فاتن حمامة بسبب الهجوم الشرس الذي تعرضت له بسبب طلاقها من والد ابنتها المخرج المحبوب عز الدين ذو الفقار وزواجها من الشاب «الحليوة» المغمور، المسيحى، الذي يصغرها سنا، ميشيل شلهوب، الذي تحول إلى عمر شلهوب، قبل أن يتحول إلى عمر الشريف لاحقا.

الحملة التي تعرضت لها من قبل الصحافة وبعض زملائها، وجزء من الجمهور الذي صدم في نجمته التي تلعب أدوار «البريئة» العذراء هددت شعبيتها وجعلتها في حالة عصبية لم تعرفها في حياتها من قبل أو بعد.

في الحوار التالى الذي نشر على صفحات مجلة «أهل الفن» في 28 مايو 1955، عقب زواج فاتن وعمر بقليل، يمكن أن نرى فاتن مختلفة، غير التي نعرفها، متوترة وعصبية وكثيرة الانتقاد لزملائها وللصحفيين والكتاب الذين ينتقدونها، وهو حوار مهم جدا لفهم قرار فاتن بكتابة مذكراتها، ولفهم الكثير من التفاصيل التي تحتويها هذه المذكرات، خاصة حول علاقتها الزوجية بعز الدين ذو الفقار، وعلاقتها بأبويها وبنفسها كأنثى.

إلى الحوار...ثم إلى الحلقة الأولى من المذكرات الأصلية، كما نشرت على صفحات «الكواكب
 
عندما تحدثت مع «أهل الفن»

فاتن حمامة: كان في إمكانى أن أتخذ «عمر شلهوب» عشيقًا في الخفاء

جلست فاتن حمامة عدة ساعات تتحدث إلى مندوب أهل الفن..
كانت عصبية،
ثائرة بها غضب على كل شيء..
وقد بذل مندوب أهل الفن جهدا عسيرا حتى أمكن له أن يتحاور معها،
وقد أفضت بما في نفسها للقراء.

قال مندوب أهل الفن:

السؤال الذي يدور الآن على كل لسان هو: هل تبقى فاتن متربعة على عرش السينما كنجمة أولى بعد زواجها الذي لم يرض عنه الجمهور، أم تزحزحها عن العرش سميرة أحمد التي يقال إن المنتجين يتنبأون لها بمستقبل رائع، أم مديحة يسرى التي لا يمكن إغفال مواهبها، أم شادية معبودة المراهقات أم مريم فخر الدين التي تشبه الربيع بين فصول السنة مع من سيكون الجمهور؟!


لقد رجتنى فاتن ألا نتحدث في هذا الموضوع قائلة «إن الجمهور المصرى طيب وعاطفى، وينسى بسرعة. يكفى أن أقول لك من يعرفوننى إذا رأونى الآن وحدى يقولون أين عمر، وإذا وجدوا عمر وحده يقولون له أين فاتن؟!».

هذا عدا الرسائل التي تصلني من الجمهور.

فلما قلت لها وهل تظنين أن الجمهور المصرى كله يراسلك وأن الجمهور كله أو بعضه ليس له وجهة نظر أخرى في الموضوع.. قد تكون ليست في صالحك.. فهل أصبحت تخشين مواجهة الجمهور؟! وكانت هذه العقدة التي فكت لسان فاتن فأخذت تتحدث قائلة:

أؤكد لك أن غالبية الجمهور كله معى، أنت لا يمكن أن تتصور كم رسالة تصل لى يوميا، إن الذين يحاربوننى هم الذين يظنون أنهم بالقضاء علىّ أو بالتأثير على الجمهور بالنسبة لحبه لى ومركزى عنده يقتحون الطريق أمام الذين يريدون أن يرفعوهم على حسابى.. ولن يصلوا إلى غرضهم.

وسكتت فاتن الصغيرة قليلا لتقول «إن عملي وحده هو صلتى بالجمهور، وما دمت أتقن عملي، فلا يهمني أي شىء آخر».

وشخصك كل وتصرفاتك؟

وماذا فعلت أنا؟ لم أفعل ولن أفعل ما حييت أي شىء يخالف الشرع أو الدين، وسوف ترى إذا كان الجمهور معى أم لا؟

إنى أريد لك كل سعادة ولكن ألا ترين أن إيراد فلامك بدأ يهبط؟

اسألوا الموزعين في ذلك، هل تعلم أن اثتين تراهنا على ذلك وأن حنفى محمود الذي تراهن في صفى كسب الرهان منذ أسبوعين.

ويقال إنك تهربين من مواجهة الجمهور وتخشين الظهور في المجتمعات خوفا على نفسك وعلى عمر؟

أؤكد لك أن الحساد حيلهم لا تنتهى، ومن ضمنهم تحية كاريوكا راحت تقول لأمينة رزق إننى كنت في سينما قصر النيل، وإن الجمهور ضايقنى، فقامت ودافعت عنى مع أننى لم أذهب لسينما قصر النيل حتى سماعى هذه الرواية عن تحية.

فلماذا إذن تبحثين عن وجوه جديدة بدل عمر الشريف للظهور أمامك؟

عمر نفسه هو الذي طلب منى ذلك، وقال لى هذا أول فيلم تظهرين فيه بعد زواجنا، وإذا ظهرت معك، فسيقول الناس إننى تزوجتك، لاستغلك وليس معقولا أن يظهر عمر أمامى في كل فيلم، لأنه أصبح زوجى.

فاتن المعذبة

وانطلقت فاتن في حديثها، كانت شفتاها هما المتحركتين طبعا، ولكنى أحسست أن فاتن كلها هي المتكلمة، وأن قلبها ينبض ويتألم ويتعذب وهى تتحدث.

وكانت تستعين بكلتا يديها وبغمزات مثيرة من عينيها اليمنى وضربات صارخة ثائرة على الأرض بقدمها اليسرى، كانت فعلًا أشبه بحمامة ترفرف وكأنها تظننى أريد أن أذبحها بحديثى هذا قالت: «أنا حرة في حياتى الخاصة وسأبقى حرة فيها ما حييت، فليهاجمنى من يريد في عملي فحسب، لا في حياتى الخاصة، فإذا أصابوا منى محلا للنقد فسأشكرهم وأتفاداه إن كان عادلا وحقيقيا».

لا يمكن أن أخضع للجمهور

وصمتت فاتن برهة، لتفكر ثم إذا بى أراها تقف وتضرب الأرض بقدميها، وتلقى في الجو بكل إمكانياتها تمثيلا أو تأثرا اندماجا وانفعالا لتقول:

وكذا الجمهور لا يمكن أن تخضع حياتى الخاصة لرغباته أو رغبات بعضه.. إن فاتن حمامة حين تصبح عجوزة لن يسأل عنها الجمهور بكلمة عطف، وإنما سيسأل عنى عمر الرجل الذي اخترته ليكون شريك عمرى.

أفهم من هذا أنك «متأكدة» أن زواجك من عمر الشريف سيدوم؟

إن شاء الله إننى أنا التي أسعد، وأنا التي أشقى، والجمهور لا يقاسمنى همومى حينما أكون متضايقة أو وحدى، وأنا الآن سعيدة وسعيدة جدًا.

وفى هذه اللحظات بالذات دخل عمر الشريف فحياها بابتسامة ووضع يدها في يده.. ودام وضع الأيدى لحظات شع فيها نور سعادة ظاهرة من عيون الإثنين، لا أدرى أكان تمثيلا أم حقيقة؟

الحب ولا شيء غير الحب

بعد أن انصرف عمر - يقول شكسبير إن الحب يؤخذ كالأشواك وهو أعمى لا يوافقه سوى الليل البهيم فما رأيك؟

ما من شك أن الحب كوخز الإبر وعسل النحل، ولكنى لا أوافق شكسبير الكبير على أنه أعمى ١٠٠٪ يمكن ٥٪ فقط، لأن الإنسان يحب الروح أولا والأخلاق ومش معقول حاشوف واحد مجرم وأتجوزه، ممكن أعتقد أن شخص كويس ١٠٠٪ فيتضح أنه ليس ٩٥٪ ولكن لن يتضح لى أننى خدعت فيه خداعا كاملا، وأنه وحش ٩٥٪ وبدت فاتن منقبضة.. وحاولت تلطيف الجو.

هل الحب فن له تكتيك؟

وسرحت فاتن في حبها وهى تقول لا: هذا هو الشىء الوحيد الذي لا يجدى فيه أي تكتيك، إنه تآلف أرواح، شىء يحدث وحده دون أي ترتيب، ولا الواحد يعمله بتكتيك ولا حاجة، وليس من المعقول أن أحب أنا إنسانا ويكون هو في وادٍ آخر.

سأترك عملى لو اقتضى الأمر

يقول العرب «ليس من الحب أن تحب ما يبغضه حبيبك، وحبيبك الجمهور، أؤكد لك أن جزءا كبيرا منه يبغض هذا الزواج لعدة عوامل منها الدين وابنتك، وكل من يقول لك خلاف ذلك يخدعك؟

أكتب عنى أن فاتن حمامة لو تعارض اشتغالها في السينما مع سعادتها كزوجة لعمر الشريف، فسأفضل بيت الزوجية على السينما والجمهور، ولن أدوس على حبى وقلبى بأى حال، وسأترك عملى لو اقتضى الأمر أن أتركه تلبية من أجل زوجى وبيتى.. إن أهم شىء لكل سيدة في الوجود، هو بيتها ولو كنت أشهر دكتورة وتعارضت المهنة مع بيتى مثلا، فسأترك حتى الطب من أجل بيتى وزوجى. افرض أننى بلغت أقصى غايات المجد وسعد الناس جميعا بفنى والناس كلما رأتنى تصفق لى والبنات يقبلنني والمعجبون يرسلون لى ألف رسالة والبنوك تمتلئ بأرباحى.. ماذا يجدينى كل هذا إذا كنت بعده أمضى إلى منزلى وحيدة آكل وحدى، وأعيش وحدى.

اسأل أي سيدة في الوجود، ستقول لك أهم أمل لها أن يكون لها بيت وزوج ولكن بعض الناس ظلمة ومتوحشون.. لقد تزوجت لأن في زواجى سعادتى، فإذا كان هذا يضايق بعض الناس أن تتم سعادتى فلن أخضع لهم.. ماذا يريد الناس منى هل يظنون أننى راهبة؟ أو أستطيع أن أكون راهبة؟.. هذا محال.

عز الدين مازال صديقى

ثم إن عمر مسلم مثلى الآن، وابنتى في حضن أمى ورعاية والدها، وأنا وعز الدين مازلنا صديقين، ونتشاور في كل ما يختص بها دائما.. ثق أننى لو كنت حتى بقيت دون زواج لما انتهى كلام الناس، أم أنهم كانوا يريدون ذلك، وأن يكون عمر الشريف صديقى فقط؟ لقد كان في مقدوري أن يصبح عمر الشريف عشيقا لى دون أن يعلم أحد، فهل إذا كنت قد فعلت هذا سرًا يكون أحسن؟!

الخروج من الموضوع

وبدت فاتن كأنها ألقت من على كتفيها حملا ثقيلا.. ولكنها كانت متأثرة فلطفت الجو بأسئلة من نوع آخر ردت علىّ فيها قائلة:

«إن أحسن ممثلة في نظرها هي جين وإيمان لأنها تعبر كويس وتمثيلها طبيعى وإحساسها بدورها كامل، وبأنها هي لم تتأثر بأى ممثلة لأنها كان لها شخصيتها الخاصة منذ صغر سنها، فلم تتأثر بأمينة رزق أو غيرها في تمثيلها، ولا أحاول تقليد أحد وإنما أحس الموقف الذي أمثله وأؤديه كما أؤديه، لو كان يحدث لى في حياتى».

وما رأيك في اشتغال أختك في السينما؟

أعتقد أنها لن تشتغل بالسينما، وهى تلميذة بمعهد الخدمة الاجتماعية، تقوم بأبحاث في البيوت، وهذا عمل عظيم ولذيذ لكل بنت وستأخذ دكتوراه من أمريكا.

وقالت إن أول من لهم فضل ظهورى في السينما أبى ومحمد كريم وإن أهم من كان سببا في مجدى هو يوسف وهبى في دوري ملاك الرحمة.

فلما سألتها عن رأيها في يوسف وهبى كإنسان قالت إنك يمكن أن تصفه في كلمتين «شخصية قوية جدا».

فلما قلت لها إن هذه ثلاث كلمات لا اثنتين، ضحكت كالعصافير وقالت: يوسف وهبى ليس رجلا جبارا يستغل قوة شخصيته في الشر أو لمنفعته الخاصة، بل هو رجل طيب ولكنه أيضا هوجم كثيرا ومن بعض من كان سببا في أن جعلهم بنى آدمين.

ولماذا تخليت عن والدك؟

هذه استحالة أننى لا يمكن أن أستغنى عن أبى وأمى وإخوتى الصغار وذات مرة أبلغ سخيف أمى تليفونيا أننى مت، فأخذت تتصل وتسأل كادت تجن حتى اطمأنت.

وما رأيك في مارلين مونرو كممثلة؟

مارلين مونرو ليست ممثلة بل مجرد سيدة جميلة تعجب الرجال.

عودة إلى زواجها من جديد

وعدنا مرة أخرى إلى موضوعها، موضوع زواجها، فسألتها وعينى في عينها.

ألا تخضعي الآن لمشورة أحد؟

لم أستشر أحدا طول عمري في زواجي لأن ذلك يخصني وحدي، وأن علاقتي بعمر بدأت بسبب الإشاعات التي أطلقها بتوع الفيلم الذي مثلته مع عمر ليروجوه بهذه الدعاية. فبعد أن زادت الإشاعات بدأت علاقتى بعمر وكانت علاقة خوف وهذا ما ربطنا سويا.

وعند هذا القدر كنت قد اكتفيت بما أريده من حمامة الوادى.. كانت لا تزال عينها اليمنى تغمز غمزات كلها حلاوة دون إرادتها طبعا، غمزات جميلة خلابة، وأصبح سبابة يدها اليسرى تداوم على وضعه في فمها الحلو الصغير ورموش عينيها تتلألأ بإشراقة نظراتها المليئة بالثقة والاعتداد بالنفس وأحيانا بوميض الأفق المجهول لمستقبل مجهول تعبر عن تحديه.. ألا ما أجمل المجد، ولكن ما أصعب أن يسقط الإنسان من شاهق.

وأنا لا أبكى للبؤساء الذين قد يخطئ الجمهور فهمهم أو يغفلون أثر الجمهور في مجدهم فيدوسهم الجمهور بأقدامه فيحرمون من نعيم المجد وحب الجمهور وتصفيقه.

وأنا أعرف عمالقة كبارا أو عمالقة كثيرين كانوا كبارا ثم أصبحوا اليوم من المنسيين، ينتهون داخليا نفسانيا، لأن الجماهير لم تعد تصفق لهم أو لم تعد تنظر لهم بالعين الأولى من التقدير والاعتبار.

إن فاتن تقول سأدوس على السينما، من أجل قلبى، وإذا اضطررت أن أختار، فسأفضل بيت الزوجة على عرش السينما.

على أن هذا ليس السؤال فقط، فهناك سؤال أهم: هل تخلى الجمهور عن فاتن حمامة وهل ستبقى النجمة الأولى للشاشة في الموسم القادم؟.

سؤال سوف يجيب عنه الجمهور في كل مكان.

«فاتن» لـ«عبدالوهاب»: اشتغل كويس وإلا هنجيب حد غيرك

بعد دوري في فيلم «يوم سعيد» خرجت مظاهرة أمام منزلنا تهتف: «عايزين أنيسة.. عايزين أنيسة».. ومكنتش بحب الاسم لأنه "بلدي"

"مدرس" حرمنى من دور البطلة في مسرحية «الهادي» فقدمت العمل أمام زميلاتى وقت "الفسحة"


أنا من مواليد ٢ مايو عام ١٩٣١

ولدت في حى عابدين.. وهو حى تسكنه الطبقة المتوسطة.. وقد كانت ولادتى كعيد بالنسبة لوالدتي، لأنها كانت قد أنجبت ثلاثة ذكور قبلى فباتت تحس أنه ينقصها "بنت"!

أما اسمى هذا الذي عرفت به فله قصة..

كان لأخى الذي يكبرنى بعامين «عروسة» أطلق عليها من بنات أفكاره اسمًا غريبًا: هو «فاتن» فلما وضعتنى أمي.. جاء أخى إلى جوار فراشى ووضع «فاتن» هدية منه لي.. فأطلقت أمى اسم العروسة عليّ، فأصبحت أنا «فاتن حمامة» ابنة الأستاذ «أحمد حمامة» المراقب الإدارى بوزارة المعارف.. وكانت قيود الوظيفة هي التي تتحكم في محل إقامتنا.. كان أبى «كالشطرنج».. تنقله وزارة المعارف من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.. وكان إن أمضيت سنين الطفولة في المنصورة مقر عمل أبى «الجديد» وقتذاك..

وكنت موضع إعجاب أبي. كان يرى فىّ كل ما يراه والد حنون ليس له سواي، فما إن قرأ عن مسابقة تجرى للأطفال، حتى سارع بإشراكى فيها وأحضر لى «زيًا» خاصًا بالموضة وحملنى حملا إلى أحد المصورين الذي التقط أروع صورة لممرضة في السادسة من عمرها، وفازت الصورة التي تمثلنى بالجائزة
 
مرت أيام وأنا لاهية عن هذه الدنيا ومشاكلها.. حتى جاءت إلى سينما «عدن» بالمنصورة السيدة آسيا لمناسبة عرض فيلم لها بالسينما.. ولست أدرى لماذا «سرحت» في تلك اللحظة.. لقد أحسست أن العيون.. آلاف العيون تتطلع إليّ وتقول: «هذه ملكتنا.. وإنها لجميلة وصغيرة».
وأفقت من حلمى هذا لأرى أمامى السيدة آسيا ترد على تحيات المعجبين بها!
و«ترجمت» حلمى بأننى سأكون يومًا ما.. مثلها.. ولم أكن أعرف عن التمثيل والسينما سوى أنى كنت أذهب بين الحين والآخر مع أسرتى لنرى حوارًا ونسمع كلامًا.. ونخرج بسلام آمنين.. وقلت لأبي: أريد أن أسلم على هذه السيدة التي أراها أمامى على الشاشة.. فوافق أبي..
وتحركت نحو السيدة آسيا ولكننى وجمت، بل خفت.. خفت من الزحام الشديد الذي أحاط بى فتراجعت.. يالها من أيام!
وقرأ أبى إعلانًا في الصحف، أو قل نداء من الصحف.. ممهورًا بإمضاء المخرج محمد كريم، وكان يطلب فيه أطفالًا صغارًا بشروط خاصة، للظهور في الفيلم الذي يخرجه هو.. وينتجه ويمثل فيه الموسيقار محمد عبدالوهاب.
وأرسل أبى صورتى وأنا بزى الممرضة إلى المخرج الكبير، وسرعان ما تلقى أبى الجواب التالي: أحضر ومعك الطفلة..
وحملنى أبى إلى محمد عبدالوهاب ومحمد كريم فأجريا امتحانًا لي.. وطلب كريم أن ألقى نشيدًا.. فألقيت عشرة أناشيد بدلًا من نشيد واحد!..
وكان أن غير محمد كريم في الرواية ليكبر في الدور الذي يخصصه للطفلة.. وتعاقد معى على القيام بهذا الدور في فيلم «يوم سعيد».
وبدأت أتردد على مكتب عبدالوهاب كل يوم ليقوم المخرج محمد كريم بتدريبى على التمثيل والوقوف أمام الكاميرا.. وكنت أستيقظ كل صباح فأجلس في سريرى الصغير وأقول لأبي: «بابا.. إحنا مش رايحين عند المعلم كريم النهاردة؟»
هكذا صور لى خيالى مخرجى الأول.. صوره معلمًا.. فقد كان المعلم أقرب الشخصيات إلى نفسى بعد والدي.. والطفل لا يبتعد كثيرًا في تشبيهاته وتصويره البدائى للأمور عن المحيط الذي يعيش فيه.. ومن هنا كان مخرجى الأول في نظرى.. معلمًا!
وكان كريم يستقبلنى على الرغم مما اشتهر به من عصبية بابتسامة مشرقة، وكنت أرى على مكتبه دائمًا عشرات الهدايا وقطع الشوكولاتة ووعودًا صامتة من المخرج ونداء للإجادة.. فكنت كلما أتقنت مشهدًا حصلت على إحداها!
وقد عرفت فيما بعد أن دور «أنيسة» الذي لعبته في فيلم «يوم سعيد» كان دورًا ثانويًا قصيرًا لا يتطلب ظهور صاحبته على الشاشة سوى دقائق قصيرة، ولكن المخرج كريم إزاء ما رآه بى من مقدرة ولما لمسه من موهبة (وهذا كلام أنقله بأمانة وبلا غرور) رأى أن يعيد كتابة القصة في كل ما يختص بدوري، وقد اقتضى التغيير في الدور إدخال تعديل كبير في السيناريو بأكمله، كما استعان المخرج بثلاثة من كبار كتاب الحوار ليضعوا للطفلة الصغيرة حوارًا يلائم سنها وتنطقه كما ينطق الأطفال..
كنت الزائرة اليومية الوحيدة لمكتب عبدالوهاب كما كان كريم هو الوحيد الذي التقيت به هناك، ولكنى لاحظت في أحد الأيام وجها آخر غير وجه كريم، وجها آخر صاحبته ممتلئة الجسد تتكلم بطلاقة لغة لا أفهمها ويوافقها كريم على حديثها بهزات من رأسه. وقد وقفت الزائرة تتأملنى طويلًا ثم أمسكت ورقة وقلما وراحت ترسم خطوطًا سريعة، وبعد أن انتهت من الرسم عرضته على كريم فأدخل عليه بعض التعديلات. وبالرغم من أن زيارة السيدة الغريبة أثارت فضولى إلا أننى لم أسأل عمن تكون، أو ماذا كانت تريد، وعرفت فيما بعد أن هذه السيدة لم تكن إلا حائكة ثياب للممثلات، وقد جاءت يومها لتصمم ملابس الفيلم!
وبعد هذه الزيارة بأيام ثرت للمرة الأولى كما تثور كل حواء.. وكان السبب هو أقوى ما يثير حواء. فقد حملوا إلى بضع جلاليب من النوع الريفى ذى الألوان الزاهية وقد رفضت بشدة أن أرتديها وصحت قائلة: «مش ممكن. ألبس زى داده نفوسة».
وقد لجأ كل من والدى وكريم إلى الحيلة في جعلى أرضخ لهذا الأمر، وعرضا على أن ألبسها بشرط أن ألبس قبلها الجلاليب في الفيلم.. وكان العرض عادلًا فقبلته على الفور.
وكان طبيعيًا، وقد طرأ تغيير كبير على حياتي، أن يتغير معه نظامى اليومي، فقد وضع لى المخرج برنامجًا دقيقا يبدأ في الساعة الأولى من الصباح وينتهى بدخولى السرير، وكان من بين ما اشترطه في هذا البرنامج أن أستقبل الصباح الباكر في إحدى الحدائق بالغناء وأن آكل وجبات محدودة الأصناف في مواعيد دقيقة، وأن أزور كل ليلة الطبيب الخاص.. وللزيارات الطبية هذه ذكريات عندي.
ذكريات مؤلمة، فقد كان رسول الإنسانية بملابسه البيضاء يثير في نفسى الفزع ويدفع بالدموع إلى عيني..
■ ■ ■
وبدأ العمل في الفيلم. دخلت الاستديو للمرة الأولى، وتخيلت نفسى صورة غريبة في بلاد العجائب فقد كان كل ما حولى غريبًا.. الأضواء.. والآلات السوداء العملاقة.. وتلك العين السحرية التي راحت تحصى علينا حركاتنا وتسجل علينا لفتاتنا.
وأذكر عن أول لقطة لى أنها كانت تجمع بينى وبين الأستاذ محمد عبدالوهاب والسيدة فردوس محمد، وأذكر أيضا أن نوبة قوية من الضحك كانت تستبد بعبدالوهاب بعد كل كلمة أنطق بها، وقد طلب كريم إلى عبدالوهاب مرارًا أن يكتم ضحكه، ولما تعذر عليه ذلك صرخت فيه بدوري طالبة منه أن يكف عن الضحك..
ونظر إلى عبدالوهاب بعينين فيهما الكثير من الدهشة ثم استغرق في الضحك ثانية!
وكان العمل في بعض مشاهد الفيلم يقتضينا السهر ليلا، وقد حرص مدير إنتاج الفيلم على أن يوفر لى أسباب الراحة في الاستديو سريرًا صغيرًا، والذي حدث هو أننى لم ألجأ إلى السرير مرة واحدة فقد كان شغفى بالعمل يشد جفونى شدًا قويًا ويطرد النعاس من عيني.. بل أكثر من هذا، كنت لا أنام ولا أترك غيرى ينام.. وكثيرًا ما كنت أتجول في أنحاء البلاتوه ثم أصرخ قائلة: بابا.. بابا شوف الراجل الكبير النايم دوه.. والست دى اللى بتتاوب.. فينهض النائم خجلا.. وأضحك أن عاليًا!
وجمع بينى وبين عبدالوهاب مشهد آخر، اشترك فيه معنا فؤاد شفيق وفردوس محمد، وكان حوارى في هذا المشهد من النوع الساذج الذي يثير الضحك. وكعادة عبدالوهاب لم يستطع أن يمنع نفسه في الضحك.. وتضايقت من ضحك عبدالوهاب المتواصل فتوقفت عن العمل ورفعت إصبعى الصغير في الهواء وقلت لعبدالوهاب بصوت عال: «أنت رح تشتغل كويس وألا نجيب غيرك!»
ولم يضحك عبدالوهاب وحده هذه المرة، وإنما ضج معه كل من في البلاتوه بالضحك ووقفت أنا في دهشة من تصرفهم أسأل نفسي: «اشمعنى المعلم كريم يطرد الممثلين ويجيب غيرهم وأنا لأ»؟!
وكنت أذهب إلى الاستديو لأعود منه في آخر اليوم محملة بالهدايا واللعب ولم يكن المخرج والمنتج هما وحدهما اللذان يقدمان إلى الهدايا بل كان يشاركهما في ذلك الزائرون أيضا.. وعلى ذكر الزائرين أقول إن المخرج محمد كريم كان ولا يزال يصدر التعليمات مشددة بألا يدخل أحد الزوار إلى البلاتوه وحدث أن زارتنا في أحد الأيام بإذن من كريم إحدى السيدات وقدمت لى الزائرة هدية لطيفة ثم جلست تتسامر مع بعض الموجودين.. ودارت الكاميرا فلم تسكت الزائرة وهنا تقدمت منها وهززتها بيدى وقلت لها: يا ستى خدى هديتك ومتعطليناش؟ وأحسست السيدة بحرج شديد فانخرطت في البكاء وتقدمت منها أربت على كتفها وأقول: معلهش يا ست هانم. أصل الشغل متعب شوية. ونسيت السيدة بكاءها وعادت تضحك على الببغاء الصغير الذي يردد كلام مخرجه.. وعرض فيلم «يوم سعيد» سنة ١٩٤٠ وقد نشأت منذ اليوم الأول لعرضه منافسة جادة بين اسمي.. اسم فاتن الذي حملته في الفيلم.. فكانت زميلاتى في المدرسة يناديننى باسم أنيسة وكنت أثور، لهذا فقد كان الاسم في نظرى «بلدي» وقد رأى مكتب الناظرة فاتن الصغيرة ثائرة أكثر من مرة.. وكان السبب هو اسم «أنيسة» وقد رأت الناظرة أن تهب لنجدتى فأصدرت أمرا مشددا بحرمان من تنادى فاتن باسم «أنيسة» من الطعام يوما كاملا.. كان هذا ما أعانيه من زميلاتي.. أما المدرسات فكن يلتففن حولى في «الفسحة» لتمطرنى بعشرات الأسئلة عن التمثيل وكيف يكون وعن المخرج وكيف يعمل ثم ينهين أسئلتهن دائما بالسؤال عن زميلى الكبير محمد عبدالوهاب.. ولم أكن يومها أدرك مكانة عبدالوهاب عند المعجبات وكنت كثيرا ما أقول لنفسى لماذا لا يسألننى عن محمد كريم، كان محمد كريم في نظرى هو الشخص الوحيد الذي يجب السؤال عنه ولم لا وهو أستاذى ومعلمى، كنت أحب كريم وأحب أيضا سيدة فاضلة هي زبيدة الحكيم.. فقد كانت تجىء دون هدايا وكانت تجلس إلى وتحدثنى في شئون كثيرة مما يهم الأطفال وكأنها في مثل سنهم وقد ظل اسم هذه السيدة يطرق ذاكرتى بين حين وآخر حتى غمرتنا مشاغل الدراسة واقترب موعد الامتحان.
■ ■ ■
أذكر أننا سافرنا ذات مرة إلى المنصورة في رحلة قصيرة وما كدنا نغادر القطار حتى التف الناس حولنا في المحطة وراح الجمهور الصغير الذي تكدس أفراده حولى يصفق ويصيح «أنيسة.. أنيسة» واستبد بى يومها الغضب فرحت أرد على «جمهورى» الأول باقتضاب ولم يجد أبى مخرجا سوى حملى على ذراعه وجاهد طويلا حتى وصل إلى الباب الخارجى.. وقد غاظنى من والدى أن رأيته يبتسم رغم كل ما حدث ولم أفهم يومها أن ابتسامة والدى كانت بسمة الرضا.. وبسمة الاعتزاز بتلك الموهبة الصغيرة الكامنة في طفلته.. ووصلنا إلى المنزل الذي كنا نقيم فيه وما كدنا ننتهى من تناول طعام الغداء حتى سمعنا هتافات عالية: «عايزين أنيسة.. عايزين أنيسة» وفتح والدى الشباك قليلا ووقف ينظر من بين دفتيه وكان المنظر الذي طالع والدى في الطريق منظرا غريبا.. كان هناك مئات من طلبة مدرسة المنصورة الثانوية تتقدمهم فرقة كشافة المدرسة وهى تعزف بعض المقطوعات الحماسية فيقاطعهما الطلبة صائحين «عايزين أنيسة» وخشى على والدى من ظهورى في الشرفة فأمرنى بالاختباء داخل المنزل ثم استدعى خادما نوبيا صغيرا كان يعمل عندنا وطلب إليه أن يخرج إلى الشرفة.. وخرج الخادم الصغير يرفع إليهم يده الأبنوسية الصغيرة ويبادلهم التحية بمثلها.. وضحك الطلبة ضحكوا عاليا ولكنهم ظلوا في أماكنهم لا يغادرونها وظلوا على موقفهم لا يحيدون عنه.. لقد جاءوا من أجل أنيسة ولن يرحلوا عن المكان إلا بعد رؤيتها؟ ونزلت النجمة الصغيرة على جمهورها خرجت إلى الشرفة أنظر بدهشة إلى الذين احتشدوا حول منزلنا ليرونى.. ليروا فاتن الصغيرة وسألت نفسى لم؟ وبقيت «لم» بلا جواب حتى أدركت أن الناس تجذبهم الشهرة كما يجذب الرحيق الحلو النحل.. خرجت إلى الشرفة والابتسامة على شفتى.. والابتسامة كان مصدرها فريق الكشافة قبل أي شىء آخر ويدى في الهواء تلوح للهاتفين.. وأشرت إليهم أن يسكتوا فأطاعوا الأمر ثم ولأول مرة في حياتى وقفت فيهم موقف الخطابة. قلت لهم: إذا كنتم عايزين انبسط وأحبكم قولوا عايزين فاتن فاتن: مش أنيسة.. علشان أنا بزعل قوى من اسم أنيسة.. وصاح الجميع «تعيش فاتن.. تعيش فاتن» ثم علا صوت من بينهم يهتف: «تعيش أنيسة» فردد الجميع الهتاف من بعده.. وهدموا على الفور ما جاهدت في بنائه، ولم أجد مهربا إلا الدموع فأطلقتها غزيرة وأسرعت بالدخول.. وفى اليوم التالى صحبنى والدى إلى حفل أقامته في المنصورة وزارة المعارف في النادي الرياضى وما كدت أدخل المكان حتى استقبلنى همس خافت: أنيسة أهى أنيسة أهى وأمسك والدى بيدى وراح يخترق مقاعد الحاضرين حتى وصلنا إلى مقصورة رجال وزارة المعارف وما كاد المدير يرانى وكان ضمن الجالسين نهض من مكانه وعمد إلى علبة كبيرة من الشكولاته ورأى الحاضرون ما فعله المدير فصفقوا طويلا واضطر المشرفون على البرنامج إلى تعطيله دقائق حتى انتهت المظاهرة؟
■ ■ ■
عندما ظهرت نتيجة الشهادة الابتدائية فإذا بى بين المتفوقات وقال لى إحساسى إن على أن أقدم الشكر للمدرسات اللواتى ساعدننى على هذا النجاح وذهبت في اليوم التالى إلى المدرسة.. مدرسة المنصورة الابتدائية ولم أذهب إليها وإنما كان ورائى خادم يحمل صينية كبيرة من الكنافة اشتهرت والدتى بإجادة صنعها ونصف دستة من زجاجات الشراب وأقمنا حفلة صغيرة في المدرسة وانهالت علىّ القبلات من كل جانب ومنهاه قبلة واحدة من عشرات القبلات كنت أود من كل قلبى ألا تستقر على وجنتى تلك قبلة مدرسة اشتهرت بيننا بالقسوة، وبالرغم أنه لم يحدث بينى وبينها طيلة العام الدراسى ما يجعلنى أكرهها إلا أننى كنت لا أحبها «لله لله» كما يقولون انحنت على المدرسة المذكورة تقبلنى وأحسست كأنما قد حط على خدى حجر كبير انفلت فجأة من الجبل وعندما رفعت شفتيها عنى اغتصبت ابتسامة رقيقة.. ولاحظت ما أدهشنى لاحظت دموعا ترق في عينيها لقد كان وراء المظهر القاسى قلب ملئ بالحنان ووراء النظرة الصارمة دموع تنتظر لحظة ضعف لتنهمر.
وحاصرتنى الدموع من كل جانب فوجدت دموعى تتدفق هي الأخرى.. وكانت دموع الفرح.
انتهت مرحلة دراستى الابتدائية ورأى والدى أن يلحقنى بمدرسة «الأميرة فوقية» بالجيزة لقربها من المنزل الذي انتقلنا إليه وكانت المدرسة سيدة عصرية تعتنى عناية خاصة بتنشئة تلميذاتها تنشئة رياضة في الحدود التي تمسح بها تقاليدنا الشرقية كما كانت تشجع الهوايات النافعة ومن بينها التمثيل.
والتحقت بفريق الرقص التوقيعى وقد أظهرت فيه براعة أدهشت المشرفين عليه ثم انتقلت إلى رئاسة فريق التمثيل في المدرسة وكان الذي رشحنى لشغل منصب الرئاسة هو دوري في «يوم سعيد» وقد استعانت المدرسة بأحد مديرى التمثيل في المسرح المدرسى الذي أنشأه زكى طليمات لنشر الثقافة المسرحية في المدارس وقد عانيت الكثير من هذا المدرب.. فقد كان لسبب لا أعلمه يضطهدنى وينتقص من مقدرتى على التمثيل.
وقد قرر أن يقدم فريق المدرسة مسرحية «الهادى» ووقع على الاختيار دون الطالبات للقيام بدور البطلة فيها وبدأت أستعد لأداء الدور فحفظت حواره كاملا وبت أنتظر البروفات.. وفوجئت ذات يوم ولم يبق على البروفات إلا بضعة أيام معدودة.. فوجئت بالمدرب يسحب منى الدور ليهديه إلى تلميذة أخرى وقد شكوت الأمر إلى الناظرة وقلت لها إننى لا أرى سببا لمثل هذا التصرف وقد أيدتنى الناظرة فيما قلت واستدعت مدرب التمثيل الذي زعم لها أن صغر سنى يحول دون قيامى بالدور الذي يتطلب فتاة أكبر وأطول قامة.
وقد حاولت الناظرة أن تثنيه عن عزمه ولكنه تشبث بالأمر واضطررت إزاء هذا التصرف العدائى إلى الاستقالة من الفريق وقد كان موقفى هذا غريبا بين زميلاتى فظل أمر اعتذارى عن التمثيل حديث الطالبات فترة غير قصيرة.. وأقيم الحفل دون أن اشترك فيه وفى اليوم التالى اجتمعنا في فترة «الفسحة» أنا وبعض زميلاتى فرحت أقول رأيى الصريح في المسرحية وانتقدت التمثيل نقدا دقيقا صارما.
وانتابنى حماس مفاجئ فرحت أثبت العلم بالعمل.. قمت أمام زميلاتى بأداء أدوار المسرحية المختلفة حتى أدوار الخدم والأدوار الثانوية لم أنسها.
وما إن انتهيت من التمثيل حتى فوجئت بعاصفة من التصفيق والتفت حولى لأجد الطالبات والمدرسات جميعا كن قد بدأن يتجمعن حولى الواحدة تلو الأخرى ولكنى لفرط اندماجى في التمثيل لم أشعر بهن إلا لحظة انتهائى من التمثيل.
وانتحت بى إحدى المدرسات جانبا وقالت: «إنت بكرة حتبقى ممثلة كبيرة يا فاتن»: ولا أدرى اليوم إذا كانت جملة مدرستى هذه كانت نبوءة أم مجرد عبارة إعجاب وتشجيع.. وكل ما أدريه أننى وقد أصبحت ممثلة ناجحة أتذكر هذه الشهادة بين حين وآخر فأحس بها تدفعنى إلى الأمام.
النسخة الورقية

الحلقة الأولى.. ننشر المذكرات الأصلية لفاتن حمامة
 
طفولتي بين «يوم سعيد» وضحكات عبد الوهاب

i.jpg74ac14a45756126bf4aca4ed64fc6883.jpg22.jpg

مذكرات فاتن حمامة (1) : طفولتي بين «يوم سعيد» وضحكات عبد الوهاب
قلت لعبد الوهاب بعد نوبة قوية من الضحك كانت تصيبه بعد كل كلمة أنطق بها: «أنت حتشتغل كويس ولا نجيب غيرك؟!»





مذكرات ومسيرة وسيرة الفنانة الراحلة فاتن حمامة، الإنسانة والحالة الفنية الرائدة في عالمنا السينمائي المصري والعربي، والتي صنعت تاريخها بميزان صائغ، وأزاميل نحات، وسيرة ملتزمة، قلما نجد فيها أخطاء المبتدئات أو ما يمكن أن يجرح حضورها الذي كان دائما استثنائيا التي تنشرها «الشرق الأوسط» بترتيب مع وكالة «الأهرام» للصحافة.


قبل نحو سبع سنوات من رحيلها بدأت مع فاتن حمامة رحلة طويلة من الاتصالات والمعايدات في بعض المناسبات المختلفة، واستطعت في بعض الأحيان «اختراق الحاجز» وإقناعها بإجراء مجرد حوارات صحافية معها لأنشرها في بعض المجلات والصحف العربية والمصرية، ولم تكن تبخل أبدا علي بذلك. حدثتني عن ملامح متفرقة من حياتها الشخصية وعن مجتمعها الذي رحل بتقاليده وأعرافه. بدأت من جديد أطرح الفكرة التي رفضتها من قبل ولكنها في تلك المرة طلبت مني فرصة كي تعيد ترتيب أفكارها وتدرس الأمر بشكل جدي قبل أن تجيبني.


وبالفعل تركتها وأنا في حالة غريبة وعجيبة من النشوة، لعل كان أهم أسبابها أنني في حالة موافقتها على أن أسطر كتابا عنها سيكون معظم مادة الكتاب جاهزا ومتوفرا تحت يدي، وهو تلك الحوارات التي كنت قد أجريتها معها ولم أكن قد نشرتها بعد، إذ كنت أحتفظ بها لمثل ذلك اليوم. وبالفعل بعد مدة قد تكون طالت وأثناء حديث تليفوني بيننا وافقت فاتن على أن أقوم بصياغة وكتابة مادة ذلك الكتاب. ولما قابلتها بعد المحادثة التليفونية ابتسمت وهي تلمس شفتيها بأنامل يدها اليمنى، وكانت تلك هي بداية الطريق الصعب والمهلك، بل والمضني أيضا.


فاتن حمامة تطرح كثيرا من الأسرار والتفاصيل وتجيب عن كثير من الأسئلة التي ظل بعضها عالقا بلا إجابة واضحة في أذهان جمهورها في مصر والوطن العربي، فتتحدث فاتن أو «تونة» كما كان ينادونها بهذا الاسم، عن أسرتها والمقربين منها، عن نشأتها وتكوينها داخل أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة المصرية وكيف استطاع والدها أحمد حمامة الذي كان كثير التنقل بسبب عمله الوظيفي الحكومي أن يرعاها وينمي موهبتها ويضعها بقوة على بداية طريق المجد.


اسمي فاتن أحمد حمامة من مواليد 2 مايو (أيار) عام 1931، ولدت في حي عابدين، وهو حي يسكنه أبناء الطبقة المتوسطة من المواطنين المصريين، بين أشقائي «نبيل ومظهر وليلى»، أما اسمي هذا الذي عرفت به فلم يكن اختياره صدفة بل إن له قصة، بدأت عندما كان لشقيقي «نبيل» الذي يكبرني بعامين «دمية»، أطلق عليها من بنات أفكاره اسما غريبا، وكان هذا الاسم هو «فاتن»، فلما وضعتني أمي جاء شقيقي إلى جوار فراشي ووضع «فاتن» هدية منه لي، فأطلقت أمي اسم العروسة الدمية عليّ، فأصبحت أنا «فاتن حمامة» ابنة الأستاذ «أحمد حمامة» المراقب الإداري بوزارة المعارف.


وابنة لأم طيبة سهرت علينا الليالي كانت لها حكمة خاصة في إشاعة العدل بيننا، وفي إضفاء شعور المودة والتضامن بين صغيرنا وكبيرنا، وهو الأمر الذي تعجز الأم كثيرا عن إقراره بين الأولاد الذين يولد بعضهم فوق رؤوس البعض، وللحق فقد ترك عدل أمي وقدرتها على صنع الحب في بيتنا أثرا باقيا في نفسي، وهو درس كنت أحاول دائما أن أطبقه بين ابنتي نادية ذو الفقار وابني طارق عمر الشريف، وألتزم به في معاملتي لهما.


ولكن الدرس الذي تعلمته من أمي كان من موقف لها حين تزوجت «بعد ذلك»، فقد كنت صغيرة، وفي العام الأول من زواجي أنجبت ابنتي نادية من المرحوم عز الدين ذو الفقار، ولم تكن عندي أدنى فكرة عن كيف أعتني بها، ومتى أرضعها؟ ومتى تنام؟ وكيف أضعها في الفراش؟ كانت قطعة من اللحم الأحمر لا تكف عن الصراخ، وكانت تثير حيرتي لأنني أشعر أحيانا أنها تشكو من شيء لا أعلم ما هو؟ لأنها لا تتكلم! إذ ذاك تصدت أمي للعمل كله، وكنت قد قرأت كتبا عن تربية الطفل، ولكن المعلومات النظرية عن الأرق شيء والتطبيق العملي شيء آخر، والحقيقة أنني وجدت أمي أفضل من أي كتاب في تربية الطفل، فإنها ببساطة علمتني فن الأمومة، أعطتني كل تجربتها وتركت بيتنا الكبير «بيت الأسرة» لتقيم معي أياما تعطيني فيها الدروس في غير ملل، حتى السهر على نادية تعلمته منها، لأن نادية كانت عنيدة وتفضل نوم النهار وسهر الليل، وإذا سهرت الليل فينبغي أن نسهر معها كـ«الديدبان» في نوبات تستغرق الليل بطوله وتنتهي في الصباح. وقد كنتُ ساخطة على السهر، ولكن جَلَد أمي علمني أن هذه هي ضريبة الأمومة، وكنت متذمرة من بكاء نادية لغير سبب، ولكن محاولات أمي دون يأس معها علمتني الصبر، وتحولت ابتسامة نادية في وجهي إلى وسام وإلى إشراقة سعادة تعوضني عن كل التعب معها، أمي علمتني الأمومة الحقيقية بينابيع الحنان المتدفقة منها بمعاني إنكار الذات المتجلية فيها بالتحمل البطولي من أجل «الضنا» الغالي، وكنت كلما حاولت أن أخفف عنها الأعباء التي تحملها معي أجدها تقول لي: «أنا سعيدة هكذا.. فليس أحلى من الفرحة بالبنت إلا الفرحة ببنت البنت».


أعود لأكمل أن قيود وظيفة والدي كانت هي التي تتحكم في محل إقامتنا، فكان أبي كـ«ـقطعة الشطرنج»، تنقله وزارة المعارف من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، وترتب على ذلك أنني أمضيت سنين الطفولة الأولى في مدينة المنصورة (مقر عمله الجديد)، وعندما كنت في السادسة من عمري، كنت موضع حب سيدات الأسر الصديقة جميعا، وكانت إحداهن كلما ذهبت إلى السينما تصحبني معها، وكنت أعود من السينما وأجلس إلى والدي لأروي له قصة الفيلم بتسلسل عجيب، فلم يكن يفوتني مشهد واحد، ثم أعقب تلخيصي للقصة بأسئلة عن الهدف الذي ترمي إليه، وهذا هو أول الدروس التي وعيتها عن فن السينما، وأفادني هذا الدرس فيما بعد في قراءة قصص أفلامي ومعرفة نواحي القوة والضعف في كل فيلم، لأنني ناقدة بفطرتي وكنت لا أمل مشاهدة الأفلام مع هذه السيدة أبدًا، بل كنا أحيانا ندخل السينما في حفلتين متعاقبتين «حفلة الساعة الثالثة ثم حفلة السادسة» وأعود أكثر نشاطا وأكثر تفتحا لمذاكرة دروسي. وكانت لأبي هواية، هي تصويري في مشاهد ومواقف مختلفة وأنا بين الخامسة والسابعة، وكنت ذكية ولماحة أفهم ما يعنيه والدي دون إفصاح.


وفي أثناء زيارة بعض الأقارب لنا ذات مرة، نظر إليّ أبي نظرة فهمت منها ما يعنيه على الفور، ولم تتمالك إحدى السيدات نفسها فقالت: «الله هو احنا في سينما ولا أيه؟»، وضحكوا وعقب أبي ضاحكا، وقال: «سأقدم فاتن للسينما فعلا»، وبالفعل، فما إن قرأ في مجلة «الاثنين» عن مسابقة صور للأطفال، حتى سارع بإشراكي فيها، وأحضر لي حينذاك زيا خاصا بالممرضة، وحملني حملا إلى أحد المصورين الذي التقط لي «أروع صورة لممرضة في السادسة من عمرها»، وطلب من والدي أن يطبع له خمسمائة صورة، فتعجب والدي لطلبه، متسائلا عن سبب كل هذا الكم من الصور، فقال له المصور: «وجه طفلتك جذاب، وستكون نجمة كبيرة وهذا العدد لنوزعه على المعجبين»، فضحك والدي واعتبر الأمر مزحة من المصور المتفائل، ولكن بالفعل فازت الصورة بالجائزة.


وبدأت أتردد على مكتب عبد الوهاب كل يوم ليقوم المخرج محمد كريم بتدريبي على التمثيل والوقوف أمام الكاميرا، وكنت أستيقظ كل صباح فأجلس في سريري الصغير وأقول لأبي: «بابا، أحنا مش رايحين عند المُعلم كريم النهار ده؟»، هكذا صور لي خيالي مخرجي الأول، صورة معلم، فقد كان المعلم أقرب الشخصيات إلى نفسي بعد والدي، والطفل لا يبتعد كثيرا في تشبيهاته وتصويره البدائي للأمور عن المحيط الذي يعيش فيه، ومن هنا كان مخرجي الأول في نظري معلما، وكان كريم يستقبلني على الرغم مما اشتهر به من عصبية بابتسامة مشرقة، وكنت أرى على مكتبه دائما عشرات الهدايا وقطع الشوكولاته ووعودا صامتة من المخرج ونداء للإجادة.


فكنت كلما أتقنت مشهدا حصلت على إحداها، وقد عرفت فيما بعد أن دور «أنيسة» الذي لعبته في فيلم «يوم سعيد» كان دورا ثانويا لا يتطلب ظهور صاحبته على الشاشة سوى دقائق قصيرة، ولكن المخرج كريم إزاء ما رآه في من مقدرة وما لمسه من موهبة (وهذا كلام أنقله بأمانة وبلا غرور) رأى أن يعيد كتابة القصة في كل ما يختص بدوري، وقد اقتضى التغيير في الدور إدخال تعديل كبير في السيناريو بأكمله، كما استعان المخرج بثلاثة من كبار كتاب الحوار ليضعوا للطفلة الصغيرة حوارا يلائم سنها وتنطقه كما ينطق الأطفال.. وأتذكر في تلك الفترة أن أجري معي أول حديث صحافي حمل عنوان «مع الطفلة فاتن»، وحضر الصحافي إلى المنزل وجلس يتحدث معي:


-
هل تحبين التمثيل؟


-
ماذا يعني التمثيل؟


-
يعني التمثيل في السينما.


-
نعم، أحب أروح السينما دائما.


-
ما شعورك عندما شاهدت نفسك على الشاشة؟


-
اسأل بابا يقول لك.


-
وأنت لا تستطيعين أن تقولي؟


-
لأني لست أفهم ما تقول.


-
تقدري تسأليني سؤالا جيدا؟


-
نعم.. أنت جاي عندنا ليه ونحن لا نعرفك؟ وأنت لست قريب بابا ولا ماما؟


-
أريد أن أجري معك حديثا صحافيا.


-
أنا معنديش حديث.


بهذه العبارات البسيطة والعفوية جرى الحديث، ونُشر في مجلة «الاثنين»، لقد كنت حينذاك الزائرة اليومية الوحيدة لمكتب عبد الوهاب، كما كان كريم هو الوحيد الذي التقيت به هناك، ولكني لاحظت في أحد الأيام وجها آخر غير وجه كريم، وجها آخر صاحبته ممتلئة الجسد تتكلم بطلاقة لغة لا أفهمها، ويوافقها كريم بإعطائها ورقة راحت ترسم عليها خطوطا سريعة، وبعد أن انتهت من الرسم عرضت عليه رسوما ترسمها ويدخل هو عليها بعض التعديلات، وعلى الرغم من أن زيارة السيدة الغريبة أثارت فضولي، فإنني لم أسأل عمن تكون أو ماذا كانت تريد، وعرفت فيما بعد أن هذه السيدة لم تكن إلا «خياطة ثياب» للممثلات، وقد جاءت يومها لتصمم ملابس الفيلم، وبعد هذه الزيارة بأيام ثرت للمرة الأولى كما تثور كل حواء، وكان السبب هو أقوى ما يثير حواء؛ فقد حملوا إليّ بضع «جلاليب» من النوع الريفي ذي الألوان الزاهية، وقد رفضت بشدة أن أرتديها، وصحت قائلة: «مش ممكن ألبس زي داده نفوسة» (وهكذا ثارت فاتن الصغيرة دفاعا عن أناقتها قبل أن تعرف ما هي الأناقة وما الغرض منها، ولكنها غريزة المرأة وإحساسها الداخلي).


وقد لجأ كل من والدي وكريم إلى الحيلة في جعلي أرضخ لهذا الأمر، وعرضا علي أن أرتدي ما أريد، بشرط أن أرتدي قبلها «الجلاليب» في الفيلم، وكان العرض عادلا فقبلته على الفور، وكان طبيعيا، وقد طرأ تغيير كبير على حياتي، أن يتغير معه نظامي اليومي فقد وضع لي المخرج برنامجا دقيقا يبدأ في الساعات الأولى من الصباح، وينتهي بدخولي السرير، وكان من بين ما اشترطه في هذا البرنامج أن أستقبل الصباح الباكر في إحدى الحدائق بالغناء، وأن أتناول كل وجبات محدودة الأصناف في مواعيد دقيقة، وأن أزور كل ليلة الطبيب الخاص، وللزيارات الطبية هذه ذكريات عندي، ذكريات مؤلمة، حيث كان رسول الإنسانية بملابسه البيضاء يثير في نفسي الفزع ويدفع بالدموع إلى عيني.


وبدأ العمل في الفيلم، ودخلت الاستوديو للمرة الأولى، وتخيلت نفسي صورة غريبة في بلاد العجائب؛ فقد كان كل ما حولي غريبا (الأضواء والآلات السوداء العملاقة) وتلك العين السحرية التي راحت تحصي علينا حركاتنا وتسجل علينا لفتاتنا، التي كان صراخ كريم يعلو في كل مرة ينظر أحدنا داخلها. إنها «الكاميرا» تلك الآلة الساحرة التي صنعتني وصنعت الكثيرين مثلي. وأذكر عن أول لقطة لي أنها كانت تجمع بيني وبين الأستاذ محمد عبد الوهاب والسيدة فردوس محمد، وأذكر أيضا أن نوبة قوية من الضحك كانت تستبد بعبد الوهاب بعد كل كلمة أنطق بها، وقد طلب المخرج محمد كريم إلى عبد الوهاب مرارا أن يكتم ضحكه، ولما تعذر عليه ذلك صرختُ فيه بدوري طالبة منه أن يكف عن الضحك، ونظر إلى عبد الوهاب بعينين فيهما الكثير من الدهشة، ثم استغرق في الضحك ثانية، وكان العمل في بعض مشاهد الفيلم يتطلب السهر ليلا، وقد حرص مدير إنتاج الفيلم على أن يوفر لي في الاستوديو سريرا صغيرا، ولكن الذي حدث هو أنني لم ألجأ إلى السرير مرة واحدة، فقد كان شغفي بالعمل يشد جفوني شدا قويا، ويطرد النعاس من عيني، بل أكثر من هذا؛ كنتُ لا أنام ولا أترك غيري ينام، وكثيرا ما كنت أتجول في أنحاء الاستوديو ثم أصرخ قائلة: «بابا.. بابا.. شوف الراجل الكبير النائم.. والست دي اللي بتتثاءب» فيترتب علي حديثي الصارخ أن ينهض النائم خجلا، وأضحك أنا عليه.


وأيضا أثناء تصوير الفيلم قال لي المخرج محمد كريم محاولا تدريبي على التعبيرات الحركية للوجه: «وريني الغضب»، ثم قال: «ورينى الفرح»، ثم قال: «احتقريني»، فقلت له «يعني أيه يا أونكل»، فقال لي: «إخص عليكي يا فتونة ما تعرفيش احتقار يعني أيه، أُمّال بتروحي المدرسة إزاي»، فقلت له: «أصل أحنا لسه ما أخدناش خط رقعة، وما أعرفش غير النسخ»، وغاص الجميع في موجة من الضحك. والطريف أيضا أن التصوير كان يتم في «استوديو مصر»، وكانت المنطقة مليئة بالناموس، وكانوا يصورون من الساعة السادسة مساء حتى السادسة صباحا، وعندما كنت أشعر بالضيق كان المخرج يمارس ألعاب الأطفال معي، بينما والدي ووالدتي اللذان يصطحباني دائما غارقان في النوم، وأيضا أثناء تصوير الفيلم وفي أحد مشاهده كانت تقول لي فردوس محمد: «خدي يا أنيسة طلعي الأكل لسي كمال (عبد الوهاب) واللّه ما أنا عارفة حيدفع أجرة الغرفة إمتى»، وأقوم بدوري وأتناول الصينية وأخرج من الشقة وكأني سأصعد لأعلى، وبعد انتهاء المشهد انشغل المخرج بتصوير مشهد آخر لم أكن مشاركة فيه، وبعد مدة فوجئ بي أحضر إليه وأنا ما زلت أحمل الصينية، وأقول له: «أنا مش عارفة اطلع له الصينية فين يا أونكل»، ويضحك المخرج معلقا علي ذلك ويقول: «يا للمسكينة. لقد تصورت أن عليها أن تصعد لأعلى فانتظرت وهي تحمل الصينية كل ذلك الوقت».


انتهينا من تصوير الفيلم، وعرض فيلم «يوم سعيد» في عام 1940، وقد نشأت منذ اليوم الأول لعرضه منافسة جادة بين اسمي «فاتن» واسم «أنيسة»، الاسم الذي حملته في الفيلم، فكانت زميلاتي في المدرسة ينادينني باسم «أنيسة»، وكنت أثور لهذا فقد كان الاسم في نظري «بلدي»، وقد شاهدني مكتب الناظرة ثائرة أكثر من مرة، وكان السبب هو اسم «أنيسة»، وقد رأت الناظرة أن تهب لنجدتي، فأصدرت أمرا مشددا بحرمان من تناديني باسم «أنيسة» من الطعام يوما كاملا. وأيضا لا يمكن أن أنسى موقفي مع عميد الممثلين يوسف وهبي، كما كان يحب أن نناديه، فقد كان له مواقف مرحة تبعث على الضحك أحيانا كثيرة رغم أنه يؤثر أن يحول العمل الفني، سواء كان مسرحية أو فيلما إلى مأساة؛ فقد دعا يوسف وهبي ذات مرة إلى اجتماع عاجل في نقابة الممثلين لبحث شؤون المهنة، وكان نقيبا للممثلين حينذاك، فعلق على باب القاعة التي سيعقد فيها الاجتماع لافتة تحمل العبارة التالية: «رجائي للسيدات من الممثلات أن يتركن أطفالهن خارج القاعة»، وحدث أن حضرت إلى النقابة لحضور الاجتماع بصفتي ممثلة، ودخلت القاعة مع راقية إبراهيم، وجلست فيمن جلس لكي نشترك في المناقشة ولكن رغم أن القاعة قد غصت بالممثلين والممثلات، فقد بقي يوسف وهبي صامتا لا يريد أن يفتتح المناقشة، وكان ينظر تجاهي وسمات الغضب بادية على وجهه، ثم قال آخر الأمر: «يبدو أن الزميلات تجاهلن الرجاء المعلق بخطوط كبيرة على باب القاعة، وجاءت إحداهن بطفلة معها»، وتلفتت السيدات من الممثلات حولهن، وقالت إحداهن: «ليس في القاعة أطفال يا أستاذ، ولم تأتِ إحدانا بطفلها أو طفلتها معها»، ولكن يوسف وهبي أشار نحوي وأنا أجلس بجوار راقية إبراهيم قائلا: «وهذه الفتاة بنت من منكن؟»، وساد القاعة سكون واتجهت الأنظار كلها نحوي، وأغرورقت عيناي بالدموع، وملأت حمرة الخجل وجنتي، وأشحت بوجهي بعيدا ولم أستطع أن أقول شيئا، فقد كنت ما زلت طفلة صغيرة، ولكن راقية إبراهيم سارعت تقول: «هذه ليست طفلة يا أستاذ يوسف. إنها فاتن حمامة الممثلة»، وتمتم يوسف بك معتذرا، وصاح بلهجته التمثيلية المعروفة قائلا: «يبقى نبدأ الاجتماع». وفي أعقاب الاجتماع استبقاني يوسف وهبي ليتحدث إلى وليعيد اعتذاره لي وتأسفه لأنه لا يعرفني ولم يرني من قبل، ولم يستطع يوسف بك على ما يبدو أن ينسى هذه الحادثة، رغم أنه كثير النسيان، ولم يكد يشرع في إنتاج وإخراج فيلم «ملاك الرحمة» حتى أسند إلى أكبر أدواري على الشاشة حتى تلك الفترة، وكان هذا الدور بالذات هو نقطة التحول في حياتي، حيث جعلني حقيقة واقعة كممثلة يشهد لها الجميع بالموهبة.


من هنا كانت بدايتي


جاءت إلى سينما «عدن» بالمنصورة السيدة «آسيا» المنتجة الشهيرة، لمناسبة عرض فيلم لها بالسينما، ولست أدري لماذا «سرحت» في تلك اللحظة. لقد شعرت بشعور عجيب وغريب، وهو أن الجميع يصفقون لي، وأن آلاف العيون تتطلع إلى وتقول: «هذه ملكتنا.. وإنها لجميلة وصغيرة»، وفسرت حلمي اليقظ بأنني سأكون يوما ما مثلها، ولم أكن أعرف عن التمثيل والسينما سوى أنني كنت أذهب بين الحين والآخر مع أسرتي لنرى حوارا ونسمع كلاما ونخرج بسلام آمنين، وقلت لأبي: أريد أن أسلم على هذه السيدة التي أراها أمامي على الشاشة، فوافق أبي، وتحركت نحو السيدة آسيا، ولكنني وجمت بل خفت من الزحام الشديد الذي أحاط بها فتراجعت. ثم قرأ أبي إعلانا في الصحف أو نداء من الصحف ممهورا بإمضاء المخرج محمد كريم، وكان يطلب صغارا بشروط خاصة للظهور في الفيلم الذي يخرجه هو وينتجه ويمثل فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب، وأرسل أبي صورتي وأنا بزي الممرضة إلى المخرج الكبير، وسرعان ما تلقى أبي البرقية التالية «احضر ومعك الطفلة»، فحملني أبي إلى محمد عبد الوهاب ومحمد كريم، فأجريا امتحانا لي، وطلب كريم مني أن ألقي نشيدا، فألقيت عشرة أناشيد بدلا من نشيد واحد، وكان أن عدل محمد كريم في الرواية في الدور الذي يخصصه للطفلة، وتعاقد معي على القيام بهذا الدور في فيلم «يوم سعيد»


مع الموسيقار عبد الوهاب في “يوم سعيد”


وقد جمع بيني وبين عبد الوهاب مشهد آخر اشترك فيه معنا الممثل فؤاد شفيق وفردوس محمد، وكان حواري في هذا المشهد من النوع الساذج الذي يثير الضحك، وكعادة عبد الوهاب لم يستطع أن يمنع نفسه من الضحك، وشعرت بالضيق من ضحك عبد الوهاب المتواصل، فتوقفت عن العمل ورفعت أصبعي الصغير في الهواء، وقلت لعبد الوهاب بصوت عالٍ: «أنت راح تشتغل كويس وإلا نجيب غيرك» ولم يضحك عبد الوهاب وحده هذه المرة، وإنما ضج معه كل من في الاستوديو بالضحك، ووقفت أنا في دهشة من تصرفهم اسأل نفسي: «إشمعنى المعلم كريم يطرد الممثلين ويجيب غيرهم وأنا لا؟!»، وكنت أذهب إلى الاستوديو لأعود منه في آخر اليوم محملة بالهدايا والألعاب، ولم يكن المخرج والمنتج هما وحدهما اللذان يقدمان إلى الهدايا، بل كان يشاركهما في ذلك الزائرون أيضا. وعلى ذكر الزائرين أقول إن المخرج محمد كريم كان يصدر تعليمات مشددة بألا يدخل أحد الزوار إلى الاستوديو، ولكني وجدت أن إحدى السيدات زارتنا في أحد الأيام بإذن من كريم، وقدمت لي هدية لطيفة، ثم جلست تتسامر مع بعض الموجودين، ودارت الكاميرا، فلم تسكت الزائرة، وهنا تقدمت منها ولكزتها في يديها وقلت لها: «يا ستي خدي هديتك ولا تعطلينا»، وشعرت السيدة بحرج شديد فانخرطت في البكاء، وتقدمت منها اربت على كتفها وأقول: «معلهش يا ست هانم، أصل الشغل متعب شوية»، ففوجئت بها تتوقف عن البكاء وعادت تضحك على الببغاء الصغير الذي يردد كلام مخرجه.
 
القائمة الجانبية للموقع
خرّيج وتبحث عن عمل؟
تعيينات العراق
هل أنت من عشاق السفر حول العالم؟
إكتشف أجمل الأماكن
هل أنت من عشاق التكنولوجيا؟
جديد التكنولوجيا
عودة
أعلى أسفل