الفتح العثماني لمصر
كانت الدولة العثمانية منذ استتبَّ سلطانها بآسيا الصغرى على تصادُقٍ ومصافاةٍ
لدولة المماليك الجراكسة المصرية، تدور بين سلاطينهما رسائلُ الوداد وعقودُ
المهادنة. وابتدأ ذلك من عصر السلطان الظاهر برقوق المصري ومُعاصره السلطان يَلْدِرِمَ
«بايزيد» العثماني.
وبقيت هذه الحال مرعية إلى زمن السلطان «بايزيد الثاني» ابن محمد الفاتح؛ إذ نازعه
أخوه الأمير «جَم» في الملك، فقاتله بايزيد وهزم جيوشه، وفرَّ جم إلى الأشرف قايتباي
سلطان مصر ملتجئًا فأجاره، وطلب بايزيد تسليمه إليه، فلم يُجِبْه قايتباي، فحقد عليه.
وانضم ذلك إلى النزاع القائم بينهما على إمارة أبناء ذي الغادر
١ — التي كانت في حماية مصر،
ثم تدخلت الدولة العثمانية في شئونها وادعت حمايتها — وإلى ما بلغ بايزيد من أن قايتباي أخذ من رسول
ملك الهند هدايا كان أرسلها إلى السلطان بايزيد؛ فاتخذ بايزيد من كل ذلك ذريعة إلى إعلان الحرب على الدولة المصرية،
فجهز جيشًا عظيمًا توغَّل في البلاد الشامية إلى قُرب حلب؛ حيث التقى به جيشٌ للمصريين؛
فكانت الهزيمة على العثمانيين، فأتبعه بجيش آخر كانت عاقبته كسابقه. وزحف الجيش المصري
على البلاد العثمانية فالتقى بجيش جرَّار عثماني، فكانت الحرب بينهما سجالًا مدة انتهت
بالصلح والمصافاة، إلا أنها صارت سببًا لتجسيم التنافُس والتزاحُم بين الدولتَين على
الاستئثار بالعظمة وبسط النفوذ والزعامة على الممالك الإسلامية.
من أجل ذلك لم يَدُمْ هذا الصلح طويلًا؛ إذ أخذ العثمانيون من جهةٍ يحرضون القبائل
والإمارات التابعة لمصر على التخلُّص من سيادتها، ويضعون العراقيل في سبيل تجارتها مع
غربي آسيا وأواسطها؛ مما جعل ورود الصوف ومنسوجاته وأنواع الفِرَاء الفاخرة والمماليك
الجراكسة إلى البلاد المصرية نادرًا جدًّا، بل ممتنعًا في أواخر أيام الغوري، وكان أشدَّها
على المصريين امتناعُ ورود الرقيق من المماليك؛ إذ هُم مادة الجيش ورجال الحكومة. ومن جهةٍ
أخرى أخذ سلاطينُ مصر يُجيرون كل من التجأ إليهم من أبناء السلاطين العثمانيين والأمراء
الفارِّين من وجه الدولة العثمانية، ثم استرسلوا في الأمر وهبُّوا يوادُّون من عادى
العثمانيين من سلاطين الدول المجاورة لهم، مثل «أُوزون حَسَن» سلطان العراق، ثم بعده الشاه
إسماعيل الصَّفوِي «المؤسس الثاني لدولة إيران الحالية» وغيرهما، ولم تَزِدْ هذه المُوَادَّة على
أكثر من تبادُل المراسلات، مع أن الشاه حاول جعلَها محالفة دفاع وهجوم فلم يفلح لبُعد ما بين الأمتين في المذاهب؛
وذلك من أغلاط الغوري. واستطار شرر هذه الإحن والأحقاد بسماح الغوري بأن يمر بطريق الشام الوفدُ الذي
أرسله الشاه إسماعيل إلى مملكة البُندقية ليَعرِض
عليها أن يتحدا معًا على محاربة العثمانيين، وبإجارة السلطان الغوري للأمير قاسم ابن
أخي السلطان سليم الأول العثماني، وإجارة الشاه إسماعيل للأمير مراد أخي قاسم، وكان
السلطان سليم أراد قتلهما، فطلبهما منهما فلم يجيباه؛ فكان ذلك — إلى خوفه من استفحال
دولة الفرس الجديدة أو تَحوُّل المودة القليلة بين مصر وفارس إلى حِلف سياسي وتناصُر حربي —
سببًا لإعلان سليم الحرب على الفرس أولًا ثم على مصر ثانيًا.
ولما زحف السلطان سليم على بلاد الشاه إسماعيل وهزمه هزيمة منكرة أراد أن يكتسح جميع
بلاده ويقضيَ على البقية من دولته، فوجد الشاهَ أتلف كل ما خلفه في مدنه وقلاعه من
المئونة والذخائر، وانتظر سليم ورود غيرها من بلاده، فعلم أن قبائل التركمان وإمارة
الغادرية التابعة لمصر قد أغارت على قوافله ومنعت وصولها إليه؛ فقلَّت الأقوات في معسكره
واضطرب الجيش، فحرَمه ذلك ثمرة انتصاره.
هذه كل المساعدة التي قامت بها مصر للشاه، مع أنها لو سيَّرت جيشًا يقطَع خط الرَّجْعة
على العثمانيين لكان التاريخُ على غير ما هو عليه. فاضطُرَّ سليم إلى الرجوع إلى بلاده منتقِمًا
في طريقه من إمارة الغادرية؛ فقتل أميرَها علاء الدين وضمَّ بلاده إلى ملكه، وولَّى غيرَه من أبناء أسرته الغادرية،
واحتجَّ الغوري على ذلك، فقابل سليم احتجاجه بإرسال رأس علاء الدين إليه؛ وحينئذٍ علم الغوري
أن الحرب واقعة لا محالة؛ فاستعد لملاقاته بتجهيز جيش عزم على
أن يقوده بنفسه، ولكن بعد فوات الفرصة؛ فإن الشاه إسماعيل لم يَعُدْ في القوة التي كانتله قبلُ؛
فقد هلكت أبطاله، وتشتَّت شملُ رجاله، وخربت بلاده، فأمِن السلطان سليم غائلته
وتفرَّغ لحرب مصر. ومع كل هذا كان من الممكن انتفاع الغوري بما بقي للشاه من القوة، ولكنه لم
يفعل أو لم يُقنع الشاه بضرورة ذلك.
أراد الغوري أن يستجمع كل ما عنده من قوة العَدد والعُدة، وكانت موارد الثروة قد نضَبت
بمصر لقطع البُرتقالِ طريقَ التجارة الهندية عليها، فلم يَكَدْ يَهُمُّ بجمع المماليكحتى تخاذلوا
وتعلَّلوا عليه بقلة النفقة المصروفة لهم وما هم فيه من العُسر. وكان الفساد قد دبَّ في أخلاقهم،
وقلَّت وطنيتهم، وجرَّأهم على ذلك ميلُ الغوري إلى مماليكه الخاصة الذين جلبهم
لنفسه واتخذهم عُدة له يتقوَّى بهم على المماليك القدماء إذا هموا به، وبعد تساهُل من
الطرفَين أمكن الغوريَّ أثناء شتاء سنة (١٥١٥م/٩٢٢ﻫ) إعدادُ جيش يخرج به إلى حدود آسيا
الصغرى، فجمع في هذا الجيش — على قلته — أكثر مَن في مصر مِن رجال القوة الحربية والأدبية؛
فخرج فيه الخليفة العباسي، وقضاة المذاهب الأربعة، ورؤساء مشايخ الطرق الصوفية، وكبار
العلماء والأعيان، ورؤساء المغنين والموسيقيين والمضحكين وأرباب الصناعات وغيرهم، وترك
بمصر حامية من المماليك تُقدَّر بنحو ألفَين، وأناب عنه الدَّوَادارَ الكبيرَ «طومان باي» ابن أخيه،
وبلغه أن الأسطول العثماني يقصِد الإسكندرية؛ فعزَّز حاميتها، وحصَّن قلاعَها بنحو مِائَتِي مدفع،
وخرج من القاهرة بموكب عظيم تتقدَّمه الطبول والزمور وتُدَق أمامه الكئوس.
خرج بهذا الجيش في شدة حَمَارَّة الصيف على غير عادة الملوك في خروجهم؛ فقاسى الجنود الأهوال
والشدائد في اجتياز صحراء طور سيناء وأودية فِلَسْطِين، ودخل كلَّ مدينة في الشام بموكب عظيم
وخاصةً مدينة دِمَشْق وحلب وحَماة.