محمود درويش: تسعة أطوار شعرية
احتلّ محمود درويش (1941 ـ 2008) موقعاً فريداً قلما حظي به شاعر في الثقافة العربية الحديثة، ولا يُقارَن نفوذه الأدبي إلا بذلك الموقع الخاص الذي تمتّع به كبار الشعراء العرب في أطوار ازدهار الشعر، حين كان الشاعر هو الناطق المعبّر عن الامة و كيانها، وعرّافها الذي يستبصر أقدارها الماضية والحاضرة. وفي ثقافات الأمم تكررت على الدوام تلك البرهة الاستثنائية التي تُلقى فيها على عاتق شاعر مهمة كبرى مثل التقاط الوجدان الجَمْعي للأمّة، وتحويل الشعر إلى قوّة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية.
ولقد توفّرت للشاعر أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لبلوغ هذا الموقع، وحدث أحياناً أنْ كان التفاعل بين هذين النوعين من الأسباب في صالح مشروع درويش الشعري في حصيلته؛ كما حدث، في أحيان أخرى، أنّ ضغط الشروط الموضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه الجمالي إلى الصفّ الثاني والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصفّ الأول. ولكنه في الحالتين أثبت حساسية فائقة تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية حين استقرّت كثيراً معادلة العلاقة التبادلية الوثيقة بين تطوير جمالياته الشعرية وتطوّر نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي. وفي طليعة الأسباب الموضوعية أتى انتماء الشاعر إلى تلك الحركة الشعرية الغنية التي كانت قد أخذت تتطوّر في فلسطين المحتلة منذ مطلع الستينيات على يد شعراء مثل توفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران ودرويش نفسه، ثم اكتشفها العالم العربي في أوج هزيمة 1967، فأطلق عليها اسم «شعر المقاومة»، انسياقاً وراء الحاجة الماسة إلى بدائل خَلاصية تخفف وطأة الاندحار، وتعيد الأمل إلى روح تعرّضت لجرح عميق. وبين مجموعة شعرية وأخرى أخذت سلطة درويش الأدبية تتعاظم وتترسخ، فأدرك أنّ موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجَمْعي للأمة يقتضي، قبل أي تدبير آخر، تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر. ولقد أسفر ذلك عن مزيج ناجح من شخصية الفلسطيني المناضل والمقاوم، وشخصية الشاعر الذي تتصف قصائده بمستوى فنّي رفيع، فاجتذب درويش القارىء العادي والقارىء المثقف على حدّ سواء، وكانت أمسياته الشعرية بمثابة أعراس احتفالية، جمالية وسياسية وطقسية، يزحف إليها الآلاف.
ومن جانب آخر، كانت سيرورة نضج التجربة الشعرية عند درويش قد تأثرت بمصادر عربية كلاسيكية وتراثية (المعلقات، المتنبي)، وكلاسيكية رومانتيكية (علي محمود طه، إبراهيم ناجي)، وحداثية بمختلف تياراتها (نزار قباني، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي). كذلك تبلورت تجربته في إطار إطلاعه المعمّق على الشعر العبري (يهودا عميحاي، بصفة خاصة)، والآسيوي (طاغور، ناظم حكمت)، والإسباني (فدريكو غارثيا لوركا، بابلو نيرودا) والروسي (فلاديمير ماياكوفسكي، سيرغي يسينين)، والفرنسي (لوي أراغون وبول إيلوار، وصولاً إلى سان جون بيرس ورينيه شار)، والأنغلو ـ ساكسوني (الأسماء كثيرة هنا، أبرزها والت ويتمان، و. ب. ييتس، إزرا باوند، ديريك ولكوت...)، والإيطالي (أوجينو مونتالي، في المقدّمة)، وتجارب الشعر في أوروبا الشرقية عموماً.
رغم أنّ تقسيم التجارب الشعرية الكبرى إلى «أطوار» أو «مراحل» أو «احقاب» يظلّ خياراً محفوفاً بالمزالق، إلا أنه رياضة مستحبة منهجياً، من جانب آخر، يحتاج إليها المؤرّخ الأدبي، كما انها تخدم دارس الشعر مثل قارئه العريض. في ضوء هذه المعادلة، يمكن اقتراح التقسيم التالي للمحطات الفارقة التي عرفتها تجربة درويش:
1ـ مرحلة الطفولة الشعرية، وتمثّلها مجموعة «عصافير بلا أجنحة»، 1960، التي سيتخلّى عنها درويش سريعاً لأنها، بالفعل، كانت تمثّل محاولات مبكّرة لا تعكس صوته الخاصّ بقدر ما تردّد أصداء تأثّره بالشعر العربي الكلاسيكي والحديث الرومانتيكي.
2ـ المرحلة الثورية، بالمعاني السياسية الإيديولوجية وكذلك الجمالية الفنّية، وتمثّلها مجموعته «أوراق الزيتون»، 1964، حين انتقل درويش من الهمّ الذاتي إلى الهواجس الجماعية، والحلم الثوري، والتغنّي بالوطن، وحسّ الإلتزام الثوري، والتضامن الإنساني والأممي (كما في قصائده «عن إنسان»، و«عن الأمنيات» و«لوركا»). غير أنّ الهمّ المركزي الأبرز كان موضوعة تثبيت الهويّة، كما في قصيدته الشهيرة «بطاقة هوية، التي سوف تشتهر باسم آخر هو السطر الإستهلالي فيها: «سجّل أنا عربي».
3 ـ المرحلة الثورية ـ الوطنية، حيث لاح وكأنّ النزعة الثورية الشخصية قد اندمجت في تيّار عريض أوسع، فصارت جزءاً من حركة وطنية فلسطينية شاملة، تخصّ البقاء والمقاومة، إنسانياً وأدبياً أيضاً. في هذه المرحلة صدرت مجموعات «عاشق من فلسطين»، 1966؛ و«آخر الليل»، 1967؛ و«العصافير تموت في الجليل»، 1969؛ و«حبيبتي تنهض من نومها»، 1970. كان درويش، لتوّه، أحد أبرز أفراد «شعراء المقاومة»، وكان شعره كان يتطوّر ضمن المنطق ذاته والموضوعات إياها؛ ولكنه امتاز عن أقرانه في خصائص عديدة، بينها غزارة إنتاجه، والأفق الإنساني الأعرض لموضوعات قصائده، وحسن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية الشرق أوسطية والهيللينية، وبراعته في أسطَرة الحدث اليومي والارتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانتيكية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.
4 ـ مرحلة البحث الجمالي، وهي التي تبدأ مع خروج درويش إلى العالم العربي، وانتقاله من القاهرة إلى بيروت. لقد أراد البرهنة على أنّه شاعر صاحب مشروع جمالي منذ البداية وقبل أيّ تصنيف آخر، وأنّ اقتران تجربته بـ«شعر المقاومة» لا يعني أنه لم يكن يسعى إلى تطوير موضوعاته وأدواته ولغته الشعرية على نحو يتفاعل مباشرة مع حركة الحداثة الشعرية العربية ويغني تيّاراتها. في عبارة أخرى هذه هي مرحلة «صراع» الشاعر مع قارئه العربي الذي أحبّه وأراد أن يسجنه في صورة «شاعر المقاومة» فقط، في حين أنّ درويش كان يعاند في البرهنة على أنّ شاعر المقاومة ينبغي أن يكون شاعراً حقيقياً أوّلاً، وشاعراً جيّداً ثانياً وأساساً. ومنذ سنة 1972، حين صدرت مجموعته «أحبّك أو لا أحبّك»، وهي الأولى له خارج فلسطين، واصل درويش تطوير مشروعه الشعري على نحو منتظم وعنيد، بحيث كانت كلّ مجموعةجديدة تشكّل نقلة أسلوبية عن المجموعة التي سبقتها. «محاولة رقم 7»، 1973، تضمنت مزجاً بين الموضوع الغنائي والاستعادة التاريخية ـ الأسطورية للمكان الفلسطيني ـ الكنعاني (كما في قصائد «النزول من الكرمل»، و«الخروج من ساحل المتوسط»، و«طريق دمشق»)؛ مجموعة «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق»، 1975، مثّلت نقلة أكثر وضوحاً نحو القصيدة الطويلة التي تمزج بين التأمّل الغنائي والسرد الملحمي؛ ومجموعة «أعراس»، 1977، تعود إلى الموضوع الوطني ولكن ضمن صياغات إنسانية ـ ملحمية أوسع، وأخرى تسجيلية ذات ارتباط بوقائع محدّدة في الزمان الفلسطيني (كما في قصائد «كان ما سوف يكون»، «أحمد الزعتر»، و«قصيدة الأرض»). من جانب آخر، كانت القصيدة الطويلة «مزامير»، في مجموعة «أحبّك أو لا أحبّك»، قد تضمنت 12 قصيدة فرعية مرقّمة، كانت في عدادها ستّ قصائد كتبها دروبش نثراً خالصاً، إذا جاز القول، ومثّلت أوّل اقتراب واضح له من أشكال قصيدة النثر العربية كما كانت شائعة في تلك الأيام، مطلع السبعينيات. وكان ذاك آخر اقتراب في الواقع، حتى صدور «في حضرة الغياب»، 2006، و»أثر الفراشة» 2008، حين سيكتب درويش سلسلة قصائد ونصوص تجهد إلى، وتنجح كثيراً في، جسر الهوّة بين التفعيلة والنثر.
5 ـ المرحلة الملحمية، وهي التي تعقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982، وخروج الفلسطينيين من لبنان إلى بحر جديد، وتيه جديد. وفي هذه المرحلة كتب درويش قصيدته الطويلة الشهيرة «مديح الظلّ العالي»، 1983، التي صنّفها في ما بعد تحت تسمية «قصيدة تسجيلية» لأنها تصف أجواء مقاومة الاجتياح، ومعنى مدينة بيروت، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وأسئلة الوجود الفلسطيني بعد الخروج إلى أوديسة جديدة. وإلى هذه المرحلة تنتمي أيضاً مجموعة «حصار لمدائح البحر»، 1984، التي احتوت على «قصيدة بيروت» بوصفها العمل الشعري الطويل الثاني الذي يكمل ملحمة الخروج الفلسطيني من لبنان. لكنّ المجموعة هذه تضمنت، أيضاً، اثنتين من أصفى وأجمل المراثي التي كتبها درويش على ذمّة شهداء الحركة الوطنية الفلسطينية: «الحوار الأخير في باريس»، في ذكرى عزّ الدين قلق، ممثّل منظمة التحرير الفلسطينية الأسبق في باريس؛ و«اللقاء الأخير في روما»، التي ترثي ماجد أبو شرار، المفوّض السياسي العام الأسبق في حركة «فتح»؛ وكلاهما اغتيل على يد الاستخبارات الإسرائيلية. وقد سبق لدرويش أن كتب مرثية فريدة مطوّلة بعنوان «كان ما سوف يكون»، نُشرت في مجموعته «أعراس»، تخليداً لذكرى صديقه الشاعر الفلسطيني راشد حسين، الذي توفي في نيويورك سنة 1977 إثر حريق شبّ في بيته. ولسوف يعود درويش إلى موضوعة الرثاء مراراً، ولكنه سوف يميل أكثر إلى رثاء المكان في الزمان، أو العكس، على نحو ملحمي عميق يتجاوز إنصاف الفرد الغائب إلى تخليده ضمن حسّ تراجيدي جَمْعي عريض، وتاريخي. 6 ـ المرحلة الغنائية، وتشمل القصائد التي كتبها درويش في باريس، وظهرت بعدئذ في مجموعتَيه «هي أغنية، هي أغنية»، 1986؛ و»وردٌ أقلّ»، 1986. وفي هذه القصائد استمرّ البحث الجمالي الذي بدأ في بيروت وانقطع فجأة مع الاجتياح الإسرائيلي وخروج الفلسطينيين من لبنان، وبدا أنّ درويش تفرّغ أكثر من ذي قبل لهواجس الذات والتأمّل الميتافيزيقي، والمحاورة الغنائية بين الشاعر والعالم. هي، أيضاً، مرحلة استكشاف مسائل الشكل والبنية الموسيقية للقصيدة، إذْ كتب درويش الرباعيات، وحاول محاكاة إيقاع العزف المنفرد في الموسيقى، وكتب القصيدة القصيرة المعتمدة على «الفقرة» الشعرية المتصلة بدل السطور، أو القصيدة الطويلة المعتمدة على قصائد قصيرة من عشرة سطور. ولعلّ هذه الفترة هي أكثر مراحل تجربة درويش قلقاً وتجريباً وتطويراً وخصوبة.
7 ـ المرحلة الملحمية ـ الغنائية، وتمثلها قصائد مجموعتَيه «أرى ما أريد»، 1990؛ و»أحد عشر كوكباً»، 1992. وهذه هي المرحلة التي شهدت عودة درويش إلى القصائد الطويلة، وإلى المشهد الملحمي العريض الذي لا يقهر النبرة الغنائية حتى وهو يستعيد الموضوع التاريخي، والذي ينفتح على تجارب إنسانية تراجيدية كبرى (المغول، الهنود الحمر، الأندلس، طروادة...)، ويبحث للفلسطيني عن موقع فيها، للفلسطيني ذاته أوّلاً ثمّ للإنسانية بعدئذ. وفي هذه المرحلة كان درويش يستكمل الفصل الأنضج من تجربته في مصالحة الموضوع الملحمي مع الموضوع الغنائي، وكان يقدّم صياغة فذّة لمراوحة الفلسطيني بين صورة البطل الملحمي الملتَقط على هيئة ضحية، وصورة الفلسطيني العادي الواقف أمام منعطف السلام واستحقاقات اتفاقية أوسلو.
8 ـ مرحلة الموضوعات المستقلّة، وتشمل مجموعتَي «لماذا تركتَ الحصان وحيداً»، 1995، التي تدور حول موضوعة السيرة الذاتية للشاعر، كما تدوّن سيرة المكان حين تحتويه الجغرافيا وينبسط فيه التاريخ، وسيرة دلالات المكان حين تنقلب إلى محطات للجسد وعلامات للروح؛ ومجموعة «سرير الغريبة»، 1999، التي تدور حول موضوعة قصيدة الحبّ إجمالاً. وضمن مرحلة الموضوعات المستقلة هذه يمكن احتساب مجموعتين صدرتا ضمن سياقات خاصة، شخصية ذاتية تخصّ الشاعر، وأخرى وطنية عامة تخصّ الأوضاع في فلسطين. وهكذا صدرت «جدارية»، 2000، وهي قصيدة طويلة تقارب الألف سطر، لكي تسجّل سلسلة تأملات ملحمية كثيفة في موضوعة الموت على خلفية رمزية وأسطورية وتاريخية محتاشة بتوتر الوجود ومقاومة العدم وموقع الشعر والفنون في هذا الخضمّ كلّه، وذلك من وحي تجربة شخصية عاشها الشاعر حين خضع لعملية جراحية دقيقة في القلب سنة 1998. كما صدرت «حالة حصار»، 2000، لتدوّن يوميات الفلسطيني في سنوات استشراس آلة الاحتلال العسكرية والأمنية الإسرائيلية. ولكنّ اليوميات لم تكن تسجيلاً حزيناً أو محزناً لعذابات الفلسطيني، بل أرادت أساساً القول إنه باق على قيد الحياة، يقاوم في صيغة آدمي من لحم ودم وليس في صيغة أسطورة ملحمية ورمز بطولي.
9 ـ المرحلة الأخيرة في شعر درويش ـ والتي انقطعت برحيله، فقطعت سلسلة اختمارات أطوار أخرى حبلى بالجديد المذهل ـ كانت تستأنف برنامج البحث الجمالي والفنّي الذي بدأه الشاعر في بيروت، ولكن في نطاق محدد أكثر هذه المرّة، هو تطوير شكل القصيدة العربية المعاصرة. ولأنّ درويش آمن بثراء البنية الإيقاعية للشعر العربي، وأنها لا تزال خصبة وقابلة للكثير من التجريب، فإنّ هاجس المجموعات اللاحقة انصبّ على التطوير المرن للتفعيلة، ضمن تشكيلات موسيقية سلسة الوقع وخافتة الصوت، تكفل تقريب المسافة بين الوزن والنثر. هذه هي السمة الكبرى في مجموعتَي «لا تعتذر عمّا فعلت»، 2004؛ و«كزهر اللوز أو أبعد»، 2005؛ لكنها بلغت ذروة عظمى في عمل درويش الأخير «في حضرة الغياب»، 2006، الذي شاء الشاعر أن يطلق عليه صفة «نصّ»، لأنه في الواقع يستكشف أرحب آفاق شعرية النثر، وينجز صيغة فريدة وفذّة من امتزاج الشعر والنثر. وأمّا عمله الشعري الأخير «أثر الفراشة»، 2008، الذي يجمع بين التفعيلة والنصوص النثرية، فقد كان أكثر أعمال درويش اقتراباً من قصيدة النثر، خصوصاً وأنّ الشاعر تعمّد إنصاف الوزن حين أعاد إنتاج تشكيلات إيقاعية عالية تذكّر بتقنيات قصيدته في أواسط السبعينيات، كما أنصف النثر حين تلمّس شعريته على نحو جمالي ولغوي غير مسبوق في نتاجه.
الهامش
(1) فقرات من نصّ نُشر بالفرنسية أولاً، كتعريف بالشاعر في مختاراته La terre nous est étroite، التي صدرت في باريس عن دار غاليمار، ضمن سلسلتها الشعرية الشهيرة، بترجمة إلياس صنبر. وقد تمّ تحديث النصّ، كي يغطي تجربة درويش حتى رحيله.