"دجلة والفرات ايقونتا العراق يشكوان من المرض والاهمال، صرخة حزينة فهل من مجيب؟"
لم تكن المياه من بين العناصر المؤسسة لحياتنا فحسب وانما هي الهاما للاساطير والقيم الروحية والرمزية والبيئية والاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية في الثقافات المختلفة والديانات المتعاقبة، فهي عصب الحياة، وبدونها،يتوقف نبض الحياة، فلقد أكّدت الشرائع السماوية على أهمية الماء في حياة البشر والكائنات الحيّة، وربط الكثير من المفكّرين بين وجود المياه والتطوّر الحضاري للمجتمعات الإنسانية، فحضارات الامم تقوم على ضفاف الانهار، ومن وبين اشهر الامثلة مصر القديمة(النيل) والهلال الخصيب(دجلة\ الفرات) والصين القديمة(النهر الاصفر) والهند القديمة(نهر السند).
يدرك العراقيون من خلال نظرية الخلق في حضارة العراق القديم قداسة المياه واهمية آلهتها، لأنهم عرفوا أهميته، وقدم له القرابين، بل وطلب رضاه واهتم به من عاش علي ضفافه طلبا للاستقرار عنده، فكانت عندهم تلك المعتقدات حتى دعاهم الى تخصيص آلهة معينة خاصة بهذين النهرين، اذًاً قدس العراقيون آلهة المياه والينابيع، واتخذوا من دجلة والفرات شعاراً مقدساُ وعنوانا بمعتقداتهم تلك، واتخذوا شيأً يتمثل بكأس فوارة او اناء فوار، فقد كانوا يرون نهر دجلة نموذجاً سماوي وهو النجم"عنونيت"، وللفرات نموذجاً هو نجم"السنونو"،
وهذا نجده في بقايا المعتقدات السومرية عند الصابئة حيث"نهريردنا" وهو النهر السماوي لدجلة والفرات، كما نجدها في يومنا من خلال،ايقاد شمعة تثبت على خشبة أو "كربة من سعف نخلة" لتطفوا على سطح الفرات او دجلة او اي نهر فيه مياه تجري، طقس عالمي وخاصة عند الأديان المنسوبة للسماء !؟ وحينما نوقد شموع الخضر أملا في تحقيق أمنية،النذر، وهو عودة الغائب، كما ان للمياه من رهبة هائلة جعلته من احدى وسائلها لاثبات وكشف بعض الجرائم تلك التي عرفت بالاختبار النهري، وعقوبة من عقوبات القوانين حين ذاك، وان الآله انكي شيد معبده في اعماق النهر، ووصفت مياهه بأنها تبريء المرضى وتطهر الابدان، ولذلك فإن البصق او التقيؤ او البول تعد خطيئة كبرى ومن الممنوعات ولها حساب قانوني، وتجريم من يلوثه.
فالانهار نفسها جالبة الحياة، كما ان بوسعها ان تسبب الكوارث، وملحمة الطوفان خير مثل يحتذى بها، والى هذين النهرين يعود الفضل الاكبر في نشوء حضارة بلاد الرافدين، والغنى الذي تتمتع بها التربة من خصوبة اسطورية ذلك ان وقوعها بين الشمال وفي الشرق من ناحية وبين موطن العشب الصحراوية في الجنوب وفي الفرات خاصة من الناحية الثالثة،اذ نشأت على ضفافهما اولى التجمعات البشرية في الكون، عندما سكن الإنسان وادي الرافدين ساعده النهر في معرفة الزراعة والري، ثم عرف الإنسان الاستقرار في مكانه، فأصبح الفرد يعيش وسط مجموعات وترتب على ذلك تكوين التجمعات البشرية والعمرانية، وساعد النهر أيضا الإنسان العراقي القديم في النقل والمواصلات والطعام وازدهار التجارة، واليهما ينسب اسباب الخير والرفاه كلها، بجانب بعض المشاهد الدينية التي تأثر بها من خلال دجلة والفرات في معتقداته الدينية، لذلك حرص على نظافتهما وتجريم من يلوثهما.
الكهاريز نظام مائي قديم كان معروفاً في بعض من المناطق العربية ومنها العراق، وفي أنحاء مختلفة من العالم، وهي أنفاق حفرت تحت سطح الأرض لايصال المياه من المناطق المرتفعة الى المناطق المنخفضة، ففي المرتفعات ثلوج تذوب في الصيف، أو عيون، أو مياه جوفية على مستوى أعلى، يحفر النفق الى داخل المنطقة الجوفية وينحدر تدريجياً بنحو درجة واحدة كل كيلومتر في اتجاه السهول، أو يحفر قرب العيون فينتقل مياهها الى السهول، أو يستخدم في ما يسمى الحصاد المائي أو حصاد الأمطار، فالمياه تنساب في الأودية والشعاب الصغيرة، وتتجمع في الوادي الكبير، استعملت الكهاريز بأساليب متطورة، ليس فقط لايصال المياه من المناطق المرتفعة والعيون والمكامن المائية وحصاد الأمطار، بل لنقل المياه من النهر الى المدن، استخدمها العباسيون، فكانت بغداد تروى بمياه دجلة بواسطة الكهاريز في نظام وتوزيع هندسي فريد آنذاك ، وكانت سامراء تروى من مياه دجلة عبر الكوفة بنظام جوفي يصل الى تحت مدينة النجف ويصب في نظام طوبوغرافي يحد النجف من الغرب ويسمى بحر النجف، وتعتبر مدينة النجف مدينة متطورة جداً باستخدام مياه الكهاريز لأنها على حدود الصحراء، وليس لديها موارد مائية، فكانت المياه، حتى سنة سبعين من القرن الماضي، تصل الى بيوت النجف بواسطة بئر تنزل الى كهريز.
يعد نهر دجلة احدى روافد العراق ألمهمة، وهو رمز الحياة والخصوبة والخير، والمخطوطات القديمة حافلة باساطير وقصص عن هذا النهر، واتخذ هذا النهر الخالد اسمه العتيد، تغنى به الشعراء والفت الكثير من القصص والحكايا عنه، وكان للنهر تأثيرات عديدة في طريق مجراه، فلم يشكل الأرض فحسب بل الثقافة والحضارة لدى الشعب أيضا، اختلفت طبوغرافيته كذلك في المكان الواحد علي مر العصور، ولقد قامت علي ضفافه أعظم حضارات العالم القديم وعصر الخلافة العباسية الذي انشأ بغداد جوهرة الدنيا، التي اصبحت عاصمة العالم ثقافيا وعلميا ونهضوياً آنذاك.
ولا يخفى على أحد الأهمية الإستراتيجية التي تكتسبها المياه في علاقات الدول والأمم، المياه، هذا المعطى الطبيعي، توافر للبشر من أجل تطوير واستمرارية حياة البشر وسائر المخلوقات، سواء بالمحافظة على الصحة، أو النظافة، أو الغذاء، كما باتت المياه اساسية لانجاح عمليات صناعية متعددة وليست ثمة منطقة مخصصة للصناعة في بلد متقدم لا تحظى بامدادت سخية ومستدامة من المياه.
يتمتع العراق بمناخ من النوع المعروف بالمناخ الانتقالي ما بين المناخ الصحراوي الحار وبين مناخ البحر الابيض المتوسط، كما يختلف معدل سقوط الامطار من منطقة الى اخرى، فيرتفع معدلها في شمال شرق العراق ليصل الى 1300مم سنويا، فيما غيرها لا تتجاوز 300مم سنويا في وسط وجنوب العراق، اما المياه الجوفية واستناداُ الى رأي الخبراء فمبلغ اجمالي كمياتها و 2مليار متر مكعب، لم يستغل الا ثلثه، ولهذا يعتمد العراق على مصادر المياه السطحية، وكما و معلوم فإن العراق دولة المصب الادنى في حوض دجلة والفرات، 70% من المياه المتدفقة الى العراق تنبع من خارج حدوده، 58% من تركيا و12% من ايران، إذاً معظم ان لم تكن جميع الموارد المائية في العراق تأتي من مصادر مائية من وراء الحدود العراقية (تركيا، إيران، سوريا)، وعلى الرغم من توفر المياه، فان العراق يعاني من مشكلة ارتفاع ملوحة التربة والتبخر والفيضانات، وافتقار لأنظمة البزل والري والسيطرة والتوزيع، ولتخفيف هذه الازمات هو تنفيذ بعض المشاريع التي تهدف الى الاستغلال الامثل لمياه نهري دجلة والفرات، إذا كانت العلاقة بالمعنى العام والشامل للكلمة بين المياه والحياة والحضارة تحظى باهتمام الدولة العراقية منذ نشوئها.
بدأت مشاريع المياه في العصر الحديث مع بداية القرن العشرين حيث تم إنشاء أول مشروع مائي عام 1913 و هو سدة الهندية، وفي عقد الثلاثينات أنشئت سدة الكوت و ناظم الغراف، لقد كان هدف المشاريع المائية في العراق وما يزال هو تنظيم انسيابية المياه لدرء خطر الفيضان و توليد الطاقة الكهربائية و الإرواء، و مع تطور الحياة المدنية وتحسن في الاقتصاد وزيادة الريع المالي وزيادة النمو السكاني مما ادى الى ازدياد الحاجة للمياه الذي اثر على معدلات تزويد العراق من احتياجاته المائية، اجريت دراسات باهتمام كبير في مجلس الاعمار في الخمسينات، كان لابد للدولة العراقية ان تواكب هذا التطور للمحافظة على توفير المنشات المائية التي من شانها ان تتجاوز الأهداف القديمة المذكورة أعلاه و التوجه نحو مشاريع خزن واسعة يمكنها من استثمارها ايضاُ وقت الحاجة، بإنشاء عدد من السدود، لتحقيق تنظيم المياه للري، وانتاج الطاقة الكهربائية، والسيطرة على الفيضان، وانتاج الثروة السمكية، وتطوير السياحة، وتحسين البيئة،
في الجدول (ا) أدناه استعراض لما هو منفذ و ما هو تحت التنفيذ من سدود و خزانات إضافة للبحيرات الطبيعية، والأودية الصحراوية، هذه ألمجموعه من المنشات المائية هي ما قامت به الحكومات العراقية المتعاقبة، الا ان الطفرة الكبيرة كانت في السبعينات وما تلاها، وبعد الغزو والاحتلال لم ينفذ اي مشروع وحتى التي بوشر فيها من قبل، ومن السدود المهمة التي لازالت لم تستكمل سد بخمة، حيث بدأت شركتا( Enka التركية، و Hidrogradnja اليوغسلافية ) بتنفيذ سد بخمة سنة 1987، وحتى العام 1991 انجزما نسبته 34 %، اوقف العمل في المشروع في حزيران العام 1991 نتيجة تداعيات حرب الخليج، وفيما بعد نُهبت معدات الشركتين وبيعت إلى إيران، وإضطر العراق لتعويض خسائر الشركتين، قدرت إجمالي تكاليف السد في حينه نحو 1.485 مليار دولار أمريكي، وبإمكان السد المذكور في حال إنشائه، توفير بين (14-17) مليار متر مكعب من المياه وبعمق (179) مترا،وإرواء أكثر من (560) هكتار من الأراضي الزراعية وإنتاج (1500) ميغاوات من الكهرباء، فضلا عن الفائدة السياحية من بحيرة كبيرة وفنادق ودور استراحة وثروة سمكية لجمالية المكان وطقسه الجميل صيفاُ.
وفي الجدول (2) أكبر خزان مائي هي بحيرة الثرثار وهو أكبر منخفض طبيعي في العراق و قد استخدم منذ عام 1956 لخزن الفائض من مياه نهر دجلة عن طريق قناة تحويل تبدأ عند سدة سامراء، وربط منخفض الثرثار فيما بعد بنهري دجلة و الفرات وبذلك أصبح بالإمكان إعادة كميات وافية من مياه الري إلى النهرين كلما دعت الحاجة إلى ذلك صيفا.
جدول (2) البحيرات و النواظم
يعد سد صدام "الموصل" أكبر سد في العراق ورابع أكبر سد في منطقة الشرق الأوسط، ويحتل موقعا استراتيجيا ويؤمن المياه والكهرباء لأكثر من مليون شخص في شمال العراق، وسد حديثة ثاني اكبر سد يحوي محطة كهرومائية، بطاقة 1050 ميغا واط، وتحتوي على ستة محطات توليدية، هذا السد ينظم ويروي المساحات في غرب الفرات، كما انه الواقي من الفيضانات التي قد تحدث.
اذا في ظل الحراك العالمي المتنامي وما يحدث على الساحة من صراعات تبرز مشكلة المياه وتوابعها على أولويات الدول وحسابات أخرى فالصراع القادم لن يكون صراعاً على البترول وحده، ولكن سيكون على نقطة المياه حيث ظهرت مصطلحات كثيرة أهمها مصطلح الأمن المائي، وكيفية مواجهة مشكلات عجز المياه عن سر حاجة الاستهلاك المحلي، ومن هنا كانت دراسة المشكة في العراق
من كل جوانبها والإعداد القوي لمواجهتها، كان ذلك في الخطة الانفجارية في منتصف السبعينات، من منظور التنمية المستدامة، لتسلم الاجيال وهي منعمة بمواردها المائية، فالحرب على المياه ستكون أشد ضراوة من الحرب على النفط.
لايمكن ان يستوعب العقل البشر حجم الدمار والهلاك وعمليات الابادة التي نجمت عن الحصار والقصف الامريكي – البريطاني المستمرالذي استمر لمدة 40 يوماُ من 17 كانون الثاني الى 28 شباط 1991 باستخدتم قذائف القنابل الفراغية والعنقودية وقذائف اليورانيوم المنضب وقذائف الافراد والتجمعات والتي اطلق عليها بالقذائف الذكية، والتي خلفت دمارا هائلا في محطات توليد الطاقة الكهربائية ومنظومات المياه والاتصالات ومواقع الري، وابار المياه، ومرافق النقل والجسور والسكك الحديدية، ومضخات، وانظمة معالجة تصريف مياه المجاري، والملاجيء، والمستشفيات ودور العبادة والمدارس، كما قام العدوان بتوجيه ضربات متكررة لسدود صدام والقادسية ودوكان وسامراء والكوت والكوفة، وناظم المشخاب وناظم شط العرب، وكلها تشكل المصدر المهم لعمليات الارواء، كما استخدم السموم الكيمياوية من اصل بايولوجي وهي فطريات ملوثة للارض والماء والانسان، كما انعكست باثارها السلبية على النشاط الازراعي والاروائي، مما ادى الى تعرض مساحات شاسعة من الاراضي الجيدة الى التملح نتيجة توقف مضخات البزل، و قد تسبب الحصار، حسب تقديرات البروفيسور فرانسيس بويل، جامعة إلينوى الأمريكية، فى أن “يلقى 1.7 مليون عراقى حتفهم كنتيجة مباشرة لهذه العقوبات الاقتصادية الهادفة إلى الإبادة الجماعية، من بينهم حوالى 750,000 طفل عراقى”، ففي قطاع مياه الشرب انخفضت نسبة ضخ مياه الشرب الى 20 بالمائة مما كانت عليه قبل الحصار، وصارت حصة الفرد العراقي لا تتجاوز 128 ليتر ماء مقابل 320 ليتر في السابق، مع انخفاض بالمقدار ذاته في مادة الكلور التي يتم فيها تعقيم مياه الشرب، مما يعني تردي نوعية مياه الشرب، ولمجابهة الآثار المترتبة نتيجة العدوان والحصار، وبفضل الارادة الوطنية و العقول المقتدرة، ودوائر الاختصاص، تمكنت الكوادر العراقية من تصليح بعض من محطات الطاقة، وانظمة تصريف المياه، واصلاح الجسور المدمرة ومنها جسري المعلق وباب الشرقي، كما بوشر عام 1992 بتحقيق مشروع النهر الثالث الممتد من شمال بغداد حتى خور عبد الله على الخليج العربي، يعمل النهر على تحسين الأراضي الزراعية، التي تقدر مساحتها بحوالي (9) ملايين دونم، بعد تخليصها من الأملاح لزيادة الإنتاج، إذ ينقل الأملاح من وسط وجنوب العراق إلى مياه الخليج العربي عبر شط البصرة، بحدود (80) مليون طن سنوياً، كما يساعد النهر على التقليل من نسبة التلوث في نهري دجلة والغرات وشط العرب وذلك بتحويل مصبات شبكات البزل وجعلها تصب فيه بدلاً من دجلة والفرات، إضافة إلى انخفاض نسبة الملوحة في هذين النهرين بعد تحويل مصبات المبازل الرئيسة عنهما، كما بوشر ايضاُ بوشر بتنفيذ مشروع ماء البدعة، بالخبرة والأيادي العراقية، لتامين المياه العذبة للبصرة من موقع (البدعة) في محافظة ذي قار، لتأمين مياه الشرب لـ 2.500.000 مواطن في محافظتي البصرة وذي قار، وفي الحفاظ على البيئة من مخاطر التلوث وانتشاره نتيجة استخدام قذائف اليورانيوم المنضب والاسلحة الاخرى، فقد اقدمت الجهات ذات العلاقة بدراسة كافة المعطيات وطوقت اماكن التلوث، ووضعت الحلول لها رغم الامكانية المتوفرة حين ذاك، وقد ساهم فيها خبراء كثيرون ومنهم العالم الدكتور هيثم الشيباني الخبير بشؤون البيئة، والذي كتب كثيرا من الدراسات والتقارير العلمية والتي نشرت في مواقع متعددة ومنها الكاردينيا، لم يستطع العراق ان ينفذ كافة الاجراءت المطلوبة نظرا لضخامة التدمير وقلة السيولة المالية ونظام الحصار والعقوبات المستممر لمدة 13 عاماً.
تم احتلال العراق عام 2003 وما نتج عنه من وضع سياسي مضطرب غابت عنه الارادة الوطنية واستفحل فيها الجانب الطائفي المقيت باللباس الديني الظاهري، الذي اباح سرقة المال واستثماره لغايات شخصية، اهملت كافة متطلبات الدولة العصرية، من البنى التحتية والصحة والتعليم والثقافة والكهرباء والري والمجاري ومحطات تحلية المياه والحسور والطرق....
بدأت تظهر ازمة نقص المياه ومياه الشرب منذ سنوات عديدة، وبرزت ظاهرة الاحتباس الحراي والجفاف وفيها دخل العراق مرحلة الفقر المائي، جراء نقص في كمية المياه، اضافة الى الزيادة المطردة في عدد السكان (أكثر من 35 مليون نسمة حاليا)، الذي يحتاج الى اكبر قدر من الماء، وانخفاض الفيضان، كما يزيدها سوءاً، عندما اقدمت ايران بخفض واردات المياه لروافد نهر دجلة (الزاب و العظيم و ديالى ) بسبب المشاريع والسدود التي اقامتها على منابع الروافد خلال الاعوام الماضية، حيث قامت ببناء سد داريان على نهر سيروان احد منابع الأنهر اللتي تصب في بجيرة سد دربندخان، واخيراُ حولت مسار الانهار والجداول المائية التي تتدفق الى باتجاه العراق لتبقى داخل حدودها، وبذلك قطعت ايران تدفق المياة التي تغذي الزاب الصغير، كما لازالت ايران تقذف مياه المبازل المالحة في شط العرب، بدورها تركيا أكملت العمل الأساسي بسد “أليسو” على نهر دجلة، إن السد الذي يقع جنوبي الأناضول يمتلك طاقة تخزين هائلة تقدر سعتها بـ 10.4 مليارات متر مكعب، تحول تركيا المياه الى سد اليسو يؤثر في نقصان المياه المندفقة بنسبة 50%، في العام الماضي انخفضت المياه التخزينية من سد الموصل بمقدار 21 مليار متر مكعب ، مما أثر على الإطلاقات المائية لنهر دجلة، ان العلاقة المائية ما بين العراق و تلك الدول تحددها القوانين الدولية و ان هذا الوضع يخضع للكثير من الإشكاليات القانونية، افتقر الجانب العراقي في هذه المرحلة ان يلعب دوراً في تذليلها بغياب القدرة القانونية والدبلوماسية وفقدان روح المسئولية، وغياب الاتصال بالمنظمات العالمية والإقليمية ، فتراجع نصيب الفرد لينخفض عن حد الفقر المائي وهو عند مستوى ألف متر مكعب، كما ادى الى ارتفاع الملوحة في معظم محافظات الجنوب فصارت التربة غير صالحة للزراعة.
مشكلة المياه لا تقتصر على الجانب السياسي وانما تمتد الى ابعاد اخرى، منها في السلوك الخاطئ في استخدام المياه بطريقة غير سليمة مما يؤدي إلى إهدارها أو تلوثها، فعدم الوعي السليم بأهمية المياه وما نحن مقبلون عليه من حروب المياه ادى إلى تراخي العراقيين والاستهانة بنقطة المياه، بعد عام 2003 اصبح السكن العشوائي ظاهرة مألوفة في اغلب محافظات العراق وخصوصا في بغداد والجنوب مما ادى الى التجاوز على شبكات مياه الشرب والسقي والمجاري، كما اههملت الصيانة لشبكات المياه المتقادمة اصلا واصبحت في خبر كان، هذا بالإضافة إلى مشكلة التخلص من النفايات وبقايا الفضلات والحيوانات الميتة وخوارج المصانع في مياه دجلة والفرات وشط العرب والترع والمصارف مما ادى إلى فوضى في المخلفات الى مشكلة أكبر وهي تلوث المياه الأمر الذي سبب كثير من الأمراض.
في الجانب التنفيذي هناك العديد من الهياكل المؤسسية لمواجهة متطلبات إدارة الموارد المائية والبيئية والصحية، لكنها متشته في مسئولية صنع القرار على عدة دوائر أو وزارات مستقلة، فلا يوجد تنسيق او تعاون فيما بينها الاجراءات في أغلب الأحيان، عدم وجود تنسيق بين المؤسسات المختلفة التي تتولى بحوث ودراسات واستخدام موارد المياه، لنأخذا مثلاٌ واقعيا حول المياه، فهناك تشتت في قواعد المعلومات حول البيانات والمعايير خاصة الكمية منها، ماهو موجود وما يمكن استغلاله بصورة جيدة، حيث أن توزيع المسئوليات بين مؤسسات كثيرة يضيع المسئولية الحقيقية عن أي خلل يحدث في إدارة الموارد المائية والبيئية، كل هذه تشارك بعدم الاهتمام بتدريب كوادر وطنية على استيعاب التكنولوجيا الحديثة لاستخدامها محليا هذه التعددية في الهياكل المؤسسية.
ولم يتوقف الأمر على ذلك بل أدى إلى إهمال الاعتبارات البيئية، ومن هنا تظهر المشكلة في عدم اتباع النهج الشمولي التعاملي في التخطيط والتنفيذ بين مختلف الموارد المائية التقليدية "الأمطار والمياه السطحية والجوفية" وغير التقليدية "، معالجة مياه الصرف الصحي والصناعي.
نشعر بالحزن والأسى لشواطيء وترع انهار العراق التي كانت تنعم بروح الحياة، اصبحت مكب للنفايات والمجاري والمياه الصناعية.
بقدر ما سببه العدوان واحتلال عام 2003 من كوارث لا يمكن حصرها على الصعيد السياسي والاجتماعي والبنيوي والصحي والتعليمي، فأنها اضافت مخلفات سامة اثرت على التربة والمياه، فقد نشرت صحيفة التايمز البريطانية أن القوات الأميركية العائدة إلى بلادها بعد سبع سنوات ونيف تركت وراءها كما هائلا من المواد السامة، و ما لا يقل عن خمسة آلاف طن من النفايات السامة بما فيها بقايا اليورانيوم المنضب المشع، في أكثر من ثلاثمئة موقع كانت تشغلها هذه القوات في العراق، وهذا ما يعتبره ذوو الاختصاص مشكلة بيئية وصحية سيظل يعاني منها العراق الى مستقبل غير منظور، كما خلفت القوات الامريكية كميات اكبر من مخلفاتهم من السموم والمواد الكيمياوية الخطرة طمروها تحت التربة والتي ستختلط بالمياه الجوفية وتنتقل الى النباتات والى مياه الشرب.
المخلفات الصحية من الادوية ومواد معالجة الامراض السرطانية والاطراف من الاذرع والسيقان المبتورة ترمى في نهر دجلة والفرات، ان مياه الانهر اصبحت مسرطنة وحتى الاسماك اصابها داء السرطان، وذلك لافتقار وزارة الصحة للمطامر الصحية، مخلفات المصافي ومحطات الكهرباء والمشاريع الصناعية التابعة لوزارة الصناعىة ومشاريع الزراعة كالبزل وتسرب الأسمدة الكیمیاویة والعضویة، ترمى الى الانهر، كل ذلك ادى الى انتشار الامراض المزمنة واحداث طفرات للأمراض الجلدية وغيرها، كم نشعر بالحزن والأسى لحال شواطيء وترع انهار العراق التي كانت تنعم بروح الحياة، اصبحت مكب للنفايات والمجاري والمياه الصناعية، فهل من مجيب!.
البصرة جنة الجنوب وبندقية العراق، المحاطة من جهاتها الاربعة بالجداول وقنوات الماء العذب التي تخترقها وشوارعها الأنيقة على ضفتي شط العرب، وتروي الأساطير أن سندباد البحري كان يبدأ مغامراته بالاقلاع من شواطئ البصرة، حالها يبعث بالحزن، فان قنواتها أو ما تبقى منها محفوفة الآن بالنفايات وتنبعث منها رائحة كريهة بسبب مياه الصرف الصحي، تعاني هي الاخرى من مشكلات عدیدة نتیجة الصعوبات التي تواجهها من جراء زیادة عدد السكان، وزیادة الطلب علیها، والاستخدام المكثف وغیر الرشید للمیاه، وتجفیف الاهوار، فضلاً عن السیاسات الخارجیة المتعلقة بالأنهار المشتركة التي أدت إلى تقلیص الإمدادات المائیة في المحافظة، وايران التي اقامت السدود على نهر الكارون الذي كان يزود شط العرب بخمسة عشر مليار مكعب من الماء،فانخفضت المياه المتدفقة الى شط العرب، وابدلت بمياه المبازل، ونهر الكرخة الذي كان يغذي هور الحويزة ومن بعده شط العرب، بخمسة مليار متر مكعب سنويا، حول مجراه الى داخل الارض الايرانية، فتدني نصیب الفرد منها، كما ظهر التلوث والتدهور في نوعية تلك المیاه من خلال المياه الثقيلة ورمي النفايات والبزل الى النهر مباشرة، فبندقية العراق وجنة الجنوب ملتقى دجلة والفرات تموت من العطش والتلوث، صرخة حزينة!.
ومع بلوغ هذه الكارثة التي وصلت الى مستوى لا يمكن تخطيه، ولاختبار قدرة الحاكمين على العراق اللذين افقروه من كل شيء يرمز الى الحياة المدنية والعصرية الا المال الموزع للجهات المنفذة، ولمجابهة الازمات المائية والبيئية والاستدلال الى ضوء النفق وتوسيعه يتوجب،الإعلان عن خطة استراتيجية بعيدة المدى تقسم الى مراحل وكما يلي:
التحرك الجدي والقوي وفق المصالح المشتركة ومجريات القانون الدولي المتعلق بالحقوق للدول المتشاطئة مع دول الجوار التي تنبع مصادر المیاه السطحیة من أراضیها، والاتفاق معها لزیادة كمیة المیاه المتدفقة إلى الأراضي العراقیة، وإ عادة مجاري الأنهر والجداول من لأراضي الايرانية إلى حالتها الطبیعیة، الاعتماد على وضع قاعدة بيانات محدثة للمياه وكمياتها وطريقة توزيعها من قبل وزارة الموارد المائية بالتنسيق مع وزارة الري، حسن إدارة المياه من خلال الاعتماد على الكفاءة والنزاهة، رفع كفاءة وصيانة وتطوير شبكات نقل وتوزيع المياه، وتفعيل موارد جديدة وترشيد الاستخدامات الداخلية للمياه، المحافظة على المياه من التلوث من خلال مخرجات المصانع من وزارتي الصناعة والنفط والاسمدة الزراعية من خلال تشريعات ملزمة تتولاها وزارة البيئة فقط، وفرض عقوبات كبيرة على المخالفين، العمل على تقليل الفاقد من مختلف الاستخدامات مع توزيع حصص المياه بما يتناسب مع الظروف الفنية والاجتماعية والاقتصادية، ومطالبة وزارة الزراعة بالحد من زراعة المحاصيل الشرهة للمياء، كالأرز واحواض تربية الاسماك، وفرض عقوبات مغلظة على المخالفين، رفع كفاءة وتطوير الري الحقلي، الاستفادة من الخرائط الهيدرولوجية التي تحدد مناطق المياه الجوفية في المناطق الجبلية المحاذية لتركيا وايران، والبدء بحفر الابار المائية لتوفرمياهها الغزيرة ونوعيتها الجيدة بسبب صخورها الكلسية، والمنطقة المتموجة التي تمتد من سنجار الى خانقين مرورا بالموصل واربيل وكركوك ومياهها كافية ونوعيتها جيدة وابارها ليست عميقة وصخورها من الحصى والحجرالرملي والمكتلات وحجر الكلس وتتراوح من 15-25م وقد تصل الى 40م ففي سهلي الموصل وسنجار تتراوح من 5-15م وفي سهل اربيل من25-40م وفي سهل كركوك من 7،5-35م ، والمنطقة المحصورة بين جبال حمرين ونهري دجلة والعظيم وفيها يصل عمق المياه الجوفية فيها بين 5و55م من سطح الارض، ومن السهول الفيضية على حانبي دجلة والفرات، والمناطق الصحراوية، وتشمل الباديتين الشمالية والجنوبية مياهها عميقة ونوعية مياه البادية الشمالية أفضل من الجنوبية وكمية مياهها متوسطة، كما يجب استكمال السدود التي بوشر بتنفيذها في السابق ولم تنجز لج الآن، صيانة السدود بصورة دورية، واخيرا وليس اخرا البدء بعمل خزانات مياه اضافية.
اكتشف الخبراء بأن العراق كلما تقل موارده المائية من دجلة و الفرات تنخفض المياه الجوفية في جزيرة العرب، كما ان ميلان الطبقات الجيولوجية ومنها التي تتواجد فيها المياه في الاجزاء الشمالية والشمالية الشرقية المحاذية لتركيا وايران يكون باتجاه العراق، وهذا يعني ان خزين المياه الجوفية اتجاهها الى الأراضي العراقية، يمكن استثماره بحفر الابار، وحتى الامطار ان نزلت، سوف تذهب الى الأراضي العراقية، وإذا تم تخزينه بسدود سوف يتسرب للمياه الجوفية العراقية.
اذاً دجلة والفرات منبع العراق، وانهما هبة العراق والعراقيين، دعونا نعترف بالجهد العظيم الذي قام به ابن الرافدين القديم لبناء حضارته، دجلة والفرات الملهمان لهذا الإبداع، هما نواة البعث والاحياء، هما مبعث التفكر والتأمل الديني والتجدد والولادة، وهما اساس التوحد والترابط لسكانه، فرغم الفيضان المكتسح لكل منهما، فهو ذلك الخير المتمثل في طميه وغرينه الذي يمد الخير للعراقيين جميعا.
ولو لم يكن دجلة والفرات، لبقى العراق جزءا من تلك الصحارى الشاسعة الجرداء بلا حياة، بلا نهرين، يعني نهاية العراق، ولهذ فأن تقديس العراقيين لهما امر ثابت، لنحافظ عليهما لكي لا يلعننا التأريخ، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
الكاردينيا