جسور بغداد... حكايات من أزمان الرخاء والمحن
١٣ جسراً وثقت تاريخ العراق ورويت بدماء الشهداء... والاستعمار البريطاني أوّل من حدّثها
قَدِمَ الشاعرُ العباسيّ علي بن الجهم إلى بغداد، وكانت في أوج مجدها، قادماً من البادية، حيث يصفه المؤرخون بدوياً جافياً، والخليفة المتوكل في قصره المنيف بين حاشيته. وصفه ابن الجهم قائلاً: (أنت كالكلبِ في حفاظـك للـودِ ... وكالتيسِ في قراع الخطوب || أنت كالدلوِ لا عدمنـاك دلـواً من كبار الدلا كثيـر الذنـوب).
وصف علي بن الجهم للمتوكل
دُهِشَ الحاضرون من تجرؤئه في ذم الخليفة! والحاشية تحرّضه بأن في ذلك مسبةً لك يا أمير المؤمنين! ضحك الخليفة، لأنه عرف قوته ورقة مقصده وخشونة لفظه، وقال: وصف كما رأى في بيئته وعدم مخالطته في ملازمة البادية.
بعدها أسكنه في دار على دجلة، ومنحه بستاناً يهب عليه النسيم، والجسر بقربه، فأقام ستة أشهر، ثم استدعاه لينشده فقال
العباسيون بناة الجسور فوق دجلة
يقال إن العباسيين هم أوّل من اهتموا ببناء الجسور على دجلة، وسبقهم البابليون في بنائها على الفرات في الضفة الغربية من وادي الرافدين التي يُطلق عليها المؤرخون (ميسوبوتامايا)، وهي بلاد ما بين النهرين.
وخلال ألف عامٍ من تاريخ إنشاء عاصمتها (بغداد) مرّت مياهُ كثيرة من تحت جسورها، التي وصلت إلى 13 جسراً حديثاً، لكل جسرٍ قصة وحكاية وتاريخ.
الجسور في العراق ضرورة لا بدّ منها على طول مجرى النهرين دجلة والفرات، ولها نكهة وروايات في بغداد العباسية الهوى والتبغدد، فهي توصل كرخها برصافتها على مدار 50 كيلومتراً طولاً من جسر المثنى في الشمال إلى جسر بغداد بالجنوب.
١٣جسراً تربط الكرخ بالرصافة
لبغداد تلك الجسور الـ13، وهي قصصٌ تؤرّخ للمدينة العاصمة التي اتّخذها أبو جعفر المنصور العباسيّ في القرن الثاني للهجرة عاصمةً للدولة العربية الإسلامية ، وكانت مغامرة بناء الجسور هاجساً يؤرِّق كل خلفاء بني العباس، حين اهتموا بالري، وعملوا على صفّ القوارب، وربطها بالحبال ليعبر عليها الناس، وينتقلوا بماشيتهم ودوابهم بين الرصافة والكرخ.
وكانت الفيضانات المُتلاحقة التي تعرّضت إليها بغداد ومدن العراق الأخرى أكثر مهددات بقاء الجسور، والحاجة إلى تقنيات بنائها لتستمر المدن في ترابطها، ومن هنا اهتمت الحضارة العراقية بالري وبناء الجسور منذ الألف الثالث قبل الميلاد، أي منذ ستة آلاف عام، لكن العصر الحديث قبل مئتي عام زاد الاهتمام ببناء الجسور. فرض ذلك الحاجة العسكرية إلى مسار الجند، ونقل الجنود والسيطرة على الأمصار.
وكان للوالي المُصلح مدحت باشا أولى محاولات ذلك في العصر الحديث في بناء جسر من القوارب لعبور البشر والدواب، أمَّا أوّل جسر لعبور العربات فاُفتتح عام 1902 في بغداد زمن الوالي نامق باشا، ويرتكز على دعامات من القوارب الخشبية! لكن أحرقه الترك، وهم يحاولون منع تقدّم الجيش البريطاني الذي احتلّ بغداد عام 1917.
الاستعمار البريطاني... أوّل من حدّث الجسور
لكنْ، الإنجليز بزعامة الجنرال مود الذي قاد الحملة البريطانية العام 1914، بدأ تفكيك أحد الجسور قرب سلمان باك جنوبي بغداد حين وصلها بعد ثلاث سنوات، ومن ثمّ سحبه شمالاً، وأصبح الجسر صالحاً، لكنه لم يكن يفي بمتطلبات عبور القطعات العسكرية المستمرة بالتدفق على بغداد لإخراج الجيش العثماني منها، فاضطر إلى بناء جسر عائم آخر قرب الأعظمية.
وصاحب ارتفاع منسوب نهر دجلة بعد نصب الجسر حدوث مشكلات يومية من اصطدامات وقطع الكابلات، وسبب ذلك غرق أحد المهندسين العسكريين، وفقدان بعض المدافع، لذلك جرى في 6 أبريل (نيسان) 1917 نصب جسر جديد بدلاً عنه، طوافاته أكثر متانة مصنوعة من الحديد، نُقِل إلى العراق من مدينة كوتا بالهند، لذلك أطلق عليه الإنجليز بعد نصبه اسم جسر "كوتا"، أو الجسر الشمالي، بينما كان يطلق البغادة عليه اسم "الجسر العتيق"، كما يروي أحد كبار المشتغلين بالري آنذاك.
الثابت، أن بناء الجسور العصرية في بغداد والعراق عموماً بدأ بعد مجيء الإنجليز الدهاة، الذين استقدموا معهم مهندسين أكفاء، في حملتهم على العراق، وبنو جسوراً كثيرة، أولها (جسر مود)، وهو جسرٌ عائمٌ على دجلة، وكان أهم وأول الجسور الحديدية العائمة التي أقامها الجيش الإنجليزي العام 1918 على القوارب العائمة، تخليداً لفاتح بغداد الجنرال مود الذي أشاع فكرة: (جئنا محررين لا فاتحين)، لكنهم ظلوا في العراق للفترة من (1914 - 1958). 44 عاماً يحكمون ويدعمون النظام الملكي الهاشمي، وعملوا مع ثلاثة ملوك أفذاذ، هم فيصل الأول، وغازي، وفيصل الثاني يرحمهم الله.
جسر مود... أعجوبة العراقيين
كان جسر مود أعجوبة العراقيين لجماله وأناقته، وهو يربط بين منطقة الصالحية بجانب الكرخ ومنطقة رأس القرية في الرصافة، في موقع جسر الأحرار الحالي، لكن طغيان فيضان دجلة، وعواصف بغداد اقتلعته حتى جرفه الفيضان. وكانت مشكلة الجسور العراقية آنذاك، أنها جسورٌ عائمة تشيد مباشرة على مياه الأنهر، التي تحرفها عندما تفيض ويطفو ماؤها.
وأصبحت الحاجة ماسة إلى تشييد جسر مكانه من ميزانية الدولة العراقية ونظامها الملكي الذي شرع ببناء جسر الملكة علياء، الذي غيَّر النظام الجمهوري اسمه إلى الأحرار الحالي!
ضرورات السياسة لبناء الجسور
وحين بدأت تتشكّل الدولة العراقية، وجرى إقرار الانتداب البريطاني للعراق، دعت الحاجة إلى السيطرة على العاصمة، وتواصلْ شطريها بكفاءة، وكان لضرورات ونقل الجند والقطعات بين شطريها، حاجة مُلحة لبناء الجسور والاهتمام بها، فقد بدأت الدولة الملكية ببناء الجسور بالتعاون مع المهندسين الإنجليز، وهم أساتذة بناء الجسور.
بناء أول جسر حديث في بغداد
وشهد العام 1939 بناء أول جسر حديث حسب المواصفات العالمية، سُمّي (جسر المأمون)، الذي أبدل بمسمى (جسر الشهداء) الحالي، وهو أول جسر حديدي ثابت حسب المواصفات العالمية في بناء الجسور، افتتحه الوصي على العرش الأمير عبد الإله، وقد تدفق الناس على الجسر الجديد وقتها، بصورة لا مثيل لها في التاريخ العراقي، ليشهدوا عصراً جديداً لمدينتهم، والمباركة بهذا الحدث، على حد وصف المستشار الخبير عدنان أحمد مظلوم. تلاه بناء جسر فيصل الأول (الأحرار) حالياً، ثم نقل جسر (مود) العائم من وسط بغداد إلى الكرادة، ليوفر مرونة لحركة الناس جنوبي بغداد، حتى أضحت العاصمة في بحبوحة في عدد الجسور بعد العهد العثماني المُقتصد في الإنفاق على مثل هذه المشروعات، بالقياس إلى عدد السكان الآخذ بالنمو تدريجياً، فصار لها ثلاثة جسور عائمة، وجسران ثابتان حصيلة الانتداب البريطاني.
حقبة الخمسينيات... عهد بناء الجسور العراقية
وشهدت خمسينيات القرن الماضي افتتاح عدة جسور من موارد الميزانية العراقية الحكومية، وأهمها جسر الصرافية الحديدي، الذي نصبت عليه سكة حديدية، وذلك في أواخر العهد الملكي العام 1957، ليكون أول جسر عراقي مشترك للسيارات والقطارات المشاة، الذي تعرّض فيما بعد إلى تفجيرٍ مجهولٍ أسقط قطعاً منه في النهر بعيد الاحتلال، وأعيد بجهود المهندسين العراقيين فوراً.
تلاه افتتاح جسر الملكة عالية (جسر الجمهورية) الحالي، وهو أهم جسور بغداد يربط جانبي الكرخ بالرصافة من قلب بغداد قبالة ساحة التحرير في الرصافة والمنطقة الخضراء في جانب الكرخ، ثم (جسر الأئمة) الذي يربط منطقتي الأعظمية جهة الرصافة بالكاظمية جهة الكرخ، ثم نُقِل جسر الأعظمية العائم إلى بلدة النعمانية جنوبي بغداد
التعديل الأخير:


غلا