لم تظهر عليه ملامح النبوغ في سنوات دراسته الأولى، بل إن أحد أساتذته وصفه بأنه تلميذ عادي في الكيمياء.. وكان ميله كبيرًا للرسم.. ولا تزال بعض لوحاته التي رسمها قبل بلوغه السادسة عشرة لوالده ولوالدته وبعض أصدقائه باقية تدل على دقة كبيرة ودقة ملاحظة.
إنه عالم الكيمياء والأحياء الفرنسي (باستير) الذي يعتبر من أعظم الشخصيات في تاريخ الطب.. فقد ساهم باجتهادات كثيرة في العلوم الحديثة ولكن فضله الأول يرجع إلى اكتشافه الجراثيم وعلاقتها بالمرض وأيضا إلى اكتشافه التطعيم الواقي منها.
تم تعيينه أستاذا وعميدًا لكلية العلوم في جامعة (ليل) في المدة من 1854 إلى 1857 وفي هذه الفترة بدأ بحوثه على عملية التخمر وكيف تحدث واستخدام الميكروسكوب في ذلك، واهتدى إلى أن سبب التخمر يرجع إلى كائنات جرثومية صغيرة وأن هذه الكائنات هي المسئولة عن إفساد المشروبات المخمرة.. وبسرعة توصل إلى نتيجة أخرى وهي أن هذه الكائنات من الممكن أن تؤدي إلى إيذاء الإنسان والحيوان. ولم يكن باستير هو أول من لاحظ ذلك فقد سبقه كثيرون ولكنه هو أول من أثبت بالتجربة صحة نظريته وهذا وحده أدى إلى إقناع كل العلماء في عصره.
ابتكر باستير طريقة (البسترة) التي نسبت إليه للقضاء على الجراثيم والميكروبات التي تصيب اللبن وبعض الأشربة الأخرى وذلك بتسخينها لدرجة حرارة معينة ثم تبريدها تبريدًا مفاجئًا ويعتبر ذلك تعقيما لها.
وقد لجأ إليه أستاذه القديم (دوماس) طالبًا منه إنقاذ صناعة الحرير في جنوب فرنسا من مرض يصيب دودة الحرير فيقضي عليها فانتقل باستير مع أعوانه إلى مناطق الإصابة وتعلم من الفلاحين دورة حياة الدودة والأعراض التي تظهر على المريض منها وفحصها تحت الميكروسكوب فوجد أن هناك مستعمرات صغيرة
من الميكروبات هي التي تسبب المرض، وبعد ست سنوات قضاها باستير وثلاثة من
أعوانه ومعهم دائما مدام باستير أمكن القضاء على مرض دودة الحرير وأمكن إنقاذ صناعته التي تقدر بملايين الفرنكات.
لقد أدت أبحاث واكتشافات باستير عن الجراثيم والميكروبات والأمراض التي تسببها إلى ذيوع شهرته في فرنسا وفي العالم كله.
ثم ركز باستير أبحاثه بعد ذلك على مرض الكلب، ذلك المرض الخطير الذي يعوي المريض به كالكلاب! ويصاب بعطش شديد لا يطفئه الماء، فالماء يخنقه ويحبس أنفاسه ثم يتطور المرض حتى ينتهي بالموت.. وكانت وسيلة العلاج السائدة هي كي مكان العضة بالحديد المحمي وإن لم تؤد إلى نتيجة في أغلب الحالات، وبعد أبحاث متعددة وتجارب فاشلة وأخرى ناجحة توصل باستير إلى تحضير لقاح ضد هذا المرض وفي السادس من يوليه عام 1885 بدأ علاج أول آدمي من عضة كلب مسعور.. وبعد أربع عشرة حقنة أعطاها له باستير، عاد الصبي (جوزيف مايستر) إلى بلدته ولم تظهر عليه أية أعراض للمرض، وقد وفد إليه أعداد غفيرة ممن أصابتهم الكلاب والذئاب المسعورة من جميع أرجاء فرنسا ومن خارجها لكي يعالجهم.
وقد جاءه يوما تسعة عشر فلاحًا من مدينة (مولنسك) الروسية عضهم ذئب مسعور ومضت على إصابتهم ما يقرب من ثلاثة أسابيع وكان خمسة منهم في حالة سيئة جدًا. وقام باستير بحقنهم بأمصاله التي أعدها.. واقتصادا للوقت كان يحقنهم صباحا ومساء.. وانتظر العالم ليسمع نتائج هذه التجربة، وكانت النتيجة نصرا هائلاً لنظريات باستير. فقد نجا ستة عشر مصابًا.. ومات ثلاثة، كان من الواضح إن (الميكروب) قد سبق إلى جهازهم العصبي فلا حيلة للأمصال فيها.. وعاد الفلاحون إلى بلادهم والعالم كله يهلل لباستير.
وبمناسبة بلوغه عامه السبعين، أقامت له فرنسا حفلا كبيرا واجتمعت الوفود من جميع أنحاء العالم في مدرج السوربون الكبير، وفي ديسمبر عام 1892ودخل باستير وهو يعرج قليلاً من أثر شلل قديم قد أصابه، وهو مستند على ذراع رئيس الجمهورية، والقوم كلهم وقوف يحيونه..
*إصرار – تحد – ثقة في النفس – رغم الفقر والإعاقة!
تلك هي خلاصة حياة باستير.